زيارة قاآني للعراق
امعاناً في التدخل والخطاب الإيراني المزدوج
أحمد أبو داود
خلال الأيام القليلة الماضية، شهد العراق العديد من الأحداث والتي كان أبرزها التظاهرات والاحتجاجات التي اندلعت جراء نتائج ما يسمى بـ “الانتخابات” والتي شهدت مقاطعة وطنية شعبية كبيرة لها. حيث نجم عن هذه الاحتجاجات، العديد من أحداث الشغب والتهديدات و اخيراً محاولة اغتيال مصطفى الكاظمي.
ونحن هنا لا نريد أن نكرّر الكثير مما قيل حول قضية محاولة اغتيال الكاظمي ومَن المسؤول عن هذه المحاولة التي جرت من خلال قصف منزله بالطائرات المسيّرة ولا عن أهدافها، الَّا أنَّ تطورات الموقف تشير الى أنَّها وبالرغم من عدم شرعية العملية السياسية المهترئة التي جاء بها المحتل الأمريكي ولا مؤسساتها وما نتج عنها، فانَّها بكل الأحوال تفضي الى استهداف السلم الاهلي في العراق واحداث مزيد من التفكيك لما تبقى من المؤسسات وتكريس ظاهرة الفوضى واللادولة التي سادت العراق منذ الاحتلال عام 2003 في إطار الاجندة الإقليمية لولاية الفقيه الإيرانية.
إيران تقف خلف العملية بأيدي كتائب مسلحة
تشير تأكيدات الموقف الدولي والأوروبي الى أنَّ الشكوك تتجه نحو أدوات إيران المسلحة في العراق، التي تستهدف الإستحواذ على السلطة عبر القوة والإنقلاب كما حصل في انقلاب الحوثي ضد الشرعية الدستورية ودفع اليمن نحو حرب أهليَّة مدمرة وتحقيق الهيمنة الايرانية على المنطقة. وعلى الرغم مما يراه البعض من وجود طرف ثالث مسؤول عن كل ذلك، الَّا أنّه من المستبعد وجود طرف ثالث والأمر برمته في انتظار التحقيقات الجارية.
فالسلاح المستخدم في القصف هو طائرات مسيَّرة تمتلكها عدد من الكتائب المسلحة في العراق وهي طائرات إيرانية سبق وان استُخدِمت ضد القواعد والمنشآت في العراق.
لذا فإنّ مصدر السلاح هو إيران، والجهة التي قامت بالمحاولة من الممكن أن تكون مرتبطة بإيران وكل ذلك يستبعد وجود طرف ثالث في المحاولة .
تَشَدّد نظام ولاية الفقيه والخطاب المزدوج في السياسة الخارجية الايرانية
لقد أصبح واضحاً ومن خلال الأدلة والقرائن الكثيرة أنَّ الفصائل المسلحة الولائية في العراق لا تعمل بصورة منفردة من دون توجيهات إيرانية، كونها مرتبطة بولاية الفقيه في قم وطهران. إلَّا أنّ إيران تجيد الخطاب المزدوج في القضايا المتعلقة خارج حدودها، وذلك إمَّا لامتصاص أزمة معيَّنة خانقة لها، أو لكسب الوقت لصالحها، أوتضليل المجتمع الدولي وحسب ما تمليه مصالحها وما ينسجم مع مشروعها المندفع لاحياء امبراطوريتها من خلال السيطرة على بعض أجزاء الوطن العربي. وهو التطبيق العملي لمشروع نظام الولي الفقيه في ايران، الذي يتخذ من الدين والمذهب غطاءً له.
فقد قدَّمت ايران ومنذ عام 1979 خطاباً مزدوجاً للعلاقات الخارجية في مواقفها الإقليمية، حيث يشير الواقع الى وجود تيَّارين أولهما أصولي متَشدِّد يتَجسَّد بالولي الفقيه، وتيار آخر “معتدل”. حيث سمعنا مسبقاً تصريحات من وزارة الخارجية الايرانية في عدد كبير من القضايا تؤكد احترام دول الجوار، وفي الوقت نفسه تنطلق تصريحات من خامنئي المتَشدِّد تدعم تيارات وكتائب مسلحة في العراق والوطن العربي، من هنا تُشَكِّل هذه الازدواجية بالمواقف عاملاً مضلِّلاً للمجتمع الدولي تقوم بتنفيذه السياسة الخارجية الإيرانية.
سياسة توزيع الأدوار
وتستخدم إيران في سبيل تحقيق ذلك أسلوب تكتيكي تحاول بموجبه أن تُظهر نفسها أنَّها كدولة ليس لها علاقة مباشرة بحلفائها في علاقاتها وسياساتها !! ، لكي تتَبرَّأ وتنآى بنفسها عن كثير مما تقوم به من تدخلات خارجية وخاصة العسكرية منها.
وفي حالتنا اليوم، ومن خلال نشاط الفصائل الولائية المسلحة في العراق الخارجة عن سيطرة الدولة، والذي تدعمه ايران بشكل مباشر، ولأنَّ ذلك يُخالف القانون الدولي الذي لا يسمح بالتدخل بالشؤون السيادية للدول خصوصاً بأفعال وأنشطة عسكرية، ويعتبره أمراً مُداناً ويُخضِع أي دولة تمارسه لعقوبات دولية. لذا فإنَّ ما عبَّر عنه الموقف الايراني الرسمي من ادانة لعملية استهداف الكاظمي، هو نوع من التكتيك في توزيع الأدوار بين قوى متشددة في طهران تتمثل في ولاية الفقيه وأخرى معتدلة تحاول أن تظهر وجهاً آخر للنظام. وتخدم زيارة قاآني بعض من هذه الجوانب.
ولكن من جهتها فإنَّ هذه الكتائب المسلحة في العراق تُعلن صراحة أنَّها تُقلِّد خامنئي وأن مرجعيتها في قم وطهران، وتنفذ توجيهات دينية أو سياسية أو عسكرية أو اقتصادية مرتبطة بها، وبالتَّالي لا يمكن غضّ النظر عن التناقض الصارخ بين أفعال هذه الجماعات التي تَدَّعي أنَّها تعمل بصورة فردية ومستقلة، وبين الواقع حيث يدحض ادّعاءها هذا كونها مرتبطة بصورة مباشرة بولاية الفقيه في قم وطهران.
لذا فإنَّ العراق اليوم يقف أمام أزمة عميقة وجذرية في التعايش الهشّ الذي نشأ في ظل الاحتلالين الأمريكي والايراني بعد ٢٠٠٣م، بين قوى وأحزاب تجمعها متناقضات وصراعات أيديولوجية وسياسية وتضارب في المفاهيم والأهداف، كونها غادرت الموحِّدات الوطنية، وارتمت في أحضان الأجنبي. وقد جاءت بنظريات متناقضة، منها ما هو ليبرالي أو يساري ومنها ما هو ثيوقراطي يتبنى ولاية الفقيه الإيرانية ويتبعها، ومنها ما هو إسلامي لا يؤيد اتجاهات ما يسمى بالمقاومة “الإسلامية” العالمية والمواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول الجوار للعراق لتبنيه منهج مرجعية أخرى تدعي الإعتدال.
أمَّا عن التطورات الجارية اليوم في الوضع العراقي والنظرة المستقبلية لما يحدث، فإنَّ التناقض الكبير بين الأطراف السياسية المساهمة والمشتركة بالعملية السياسية البائسة في العراق من شأنه أن ينكشف يوماً بعد يوم فيتعرى من ورقة التوت وعندها يتفجَّر ويبان على حقيقته.
ومما يزيد التعقيد خطورة هو ادِّعاء كل من الطرفين الايراني والأمريكي بعدم وجود تعايش ما بين إيران والنفوذ الإيراني في العراق وبين النفوذ الأمريكي فيه، في حين أنَّ حقيقة الأمر على أرض الواقع تؤكد استحالة امتلاك ايران لكل هذا النفوذ والهيمنة والاندفاع لا في العراق وحسب وانَّما في سوريا ولبنان واليمن من دون مباركة وتواطؤ أمريكي.
وفي الختام فإنَّنا نرى أنَّ هذا التناقض العميق بين الكتل والأحزاب المشتركة في العملية السياسية الهزيلة والهشَّة إذا استمر فسوف يؤدي الى مزيد من تصاعد حالة الاضطراب والفوضى، ويهدِّد السلم الأهلي ووحدة العراق، وبالتَّالي فليس هناك من حلٍّ الَّا بتحرير العراق من الاحتلالين الايراني والأمريكي على يد أبنائه من القوى الوطنية والثوَّار التشرينيين ليعود العراق حرّاً مستقلا سيِّداً على نفسه، فيواصل مسيرته القومية الحضارية والانسانية كجزء لا يتَجزَّأ من أمته العربية المجيدة.