في ذكرى الغزو الأمريكي الغاشم : تَعَدَّدَ الجُنَاةُ والمَجْنِي علَيْهِ، العِرَاقُ… وَحِيداً!
د.محمد رحيم آل ياسين
لقد فقد أعداء الأمة من أمريكان وصهاينة ومَن تحالف معهم أعصابهم، بعد أن أيقنوا انَّ كل نباحهم المسعور منذ قيام ثورة البعث في (17) تموز عام 1968م، قد فشل وأُحبِطَ من مناضلي البعث الميامين، وأنَّ حملات التحريض والتآمر ضِدَّ هذه الثورة الظافرة لم تحقق شيئاً واحداً من أهدافهم الخبيثة في النيل منها ومن قيادتها ومن الشعب العراقي العظيم. رغم أنَّهم استنفروا كل ما لديهم من امكانات وقدرات شريرة في محاولة لتشويه صورة الثورة الناصعة وطمس هويتها، من خلال اثارة الشكوك والاتهامات حول كل شيء يجري على أرض الرافدين في ظل ثورة تموز المباركة. ولم يفلح حقدهم وغلّهم تجاه البعث ومناضليه، فقد استمرت انجازات العراقيين التاريخية ولم تتوقف.
وعند الحديث عن ثورة تموز الخالدة، فإنَّنا سنلمس بشكل واقعي نجاحها في اجراء تحولات مفصلية في حياة العراقيين، وتبنيها لرؤى فكرية وتطبيقية متكاملة تشمل القوانين والنظم والمؤسسات والمعارف العامة والثقافة. فكانت حداً فاصلاً وزمناً فارقاً في تاريخ العراق والأمة العربية المجيدة، حتى أصبحت أهداف الثورة ونهجها مترسخة في وجدان العراقيين، بل أصبحت
جزءاً مهماً وأساسياً من نسيجه الاجتماعي والثقافي ووجدانه الوطني والقومي.
من هنا استهدف الاعداء الثورة والثوّار، ولكنَّهم كانوا يغفلون عن حقيقة مهمة وهي أنَّ الثورات الحقيقية لا تموت، ولأنَّ ثورة تموز ليست من صنع فرد واحد أو جماعة، بل هي صناعة حزب قومي عربي، وشعب كامل بكل شرائحه المدنية والعسكرية.
وفي ذكرى الغزو الأمريكي الغاشم، لا نقول أنَّ هياجاً من الحزن والألم قد سيطر على مشاعرنا منذ غزو بلادنا واحتلالها، فإنَّنا كمناضلين في الحزب نحتسب ونصبر ونعي جيداً طبيعة المؤامرة العالمية ضدَّ البعث والعراق وقيادته الوطنية والقومية. ولسنا هنا بصدد المساءلة والحساب لمَن شارك من النظام العربي أو ساهم في اسناد المعتدين الغزاة وقدَّم لهم الدعم المادي والمعنوي، مما سهَّل لأرباب الشرّ جريمة غزو العراق واحتلاله وتدميره. لقد تجاوزنا زمن الحساب والعتاب، خاصة بعد ان اكتوى النظام العربي بتبعات الغزو على الاقطار العربية الاخرى ومدى انكشاف الامن القومي العربي الان. لذا فنحن اليوم بأمسّ الحاجة الى مناخ عربي يجمع ولا يفرق، يوحِّد ولا يُشَتِّت. وأن نتقبل صدمة الاحتلال الغاشم التي صعقتنا مرات ومرات.
ومن المفيد اليوم أنْ تتعمق قناعتنا بأنَّه لم يعد ممكناً ولا مقبولاً استمرار التعاطي مع قضية احتلال العراق بالطرق القديمة للتفكير أو الطرق التقليدية المألوفة، فالرأي العام العربي يصبو الى ما هو جديد وموضوعي، وهو رأي الشارع العربي الذي يريد معرفة الحقيقة كما هي دونما تضليل أو تمويه .ورغم كل شيء، فإنَّ ما قام به الأمريكان ومَن تحالف معهم، ما هو إلَّا جريمة تاريخية عظمى، أسفرت عن احتلال العراق وتدميره.
وممَّا لا شكّ فيه أنَّ المكر والغدر صفتان تدلان على خسَّة النفس وسقوط معاني الشرف والانسانية، وفي تصورنا ليس هناك ما هو أقبح من الغدر والخيانة والمكر، والتاريخ يحفظ لنا منذ الأزل أنَّ الصهاينة والفرس أسياد
في احتراف الغدر والمكر، اللذان مبعثهما ثقافة الكراهية التي ترفض الآخر.
وهكذا اجتمع كل هؤلاء الأشرار واتفقوا على هدف واحد هو احتلال العراق وتدميره والقضاء على نظامه الوطني والقومي. كل هذا يأتي في عصر صناعة الكراهية، تلك التي راجت في السنوات الثلاثين الأخيرة، وقد روَّج لها رؤوساء ومسؤولون وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي بوش الأب، ثم بوش الإبن، صاحب خطاب الكراهية الأشَّد خطراً ووحشيَّة ضد الآخرين، وليس هناك تفسير لهذا الاتِّجاه سوى اصابة الوجدان بالمرض والعِلَّة، وغياب العقلانية والرصانة عن السلوك. فالوجدان السليم هو مَن يُنَّمي مشاعر الألفة والمحبة للآخرين، لكنَّ الوجدان المعلول والموبوء ينَمِّي مشاعر الحقد والكراهية والضغينة والانتقام. انَّه الوجدان الذي يصنع الجبروت والقسوة والغِلّ.
ومن هنا استعرت معارك الكراهية والمكر التي قادتها القوى الغاشمة المعادية للحياة وللعروبة وللانسانية جمعاء، والتي رفعت لواء العنف والتدمير والحرب والارهاب. حيث كشَّرت نوازع الهمجية والغرور عن أنيابها ، هذه القوى الشريرة وقفت في مواجهة قوى الخير والمحبة والنور والسلام، التي جسدتها تجربة العراق الناهض بقيادة مناضلي البعث.
لقد فات الجُناة الأوغاد أنَّهم فشلوا في غاياتهم الخبيثة حيث ظنوا أنَّ احتلال العراق وتدمير بناه التحتية يعني نهاية البعث ومشروعه القومي الحضاري النبيل، لكنَّ الله سيخيِّب ظنهم وستموت أحلامهم الشرِّيرة.
وباتأكيد فإنَّ اختيار العراق ليكون البلد المجني عليه واغتيال نظامه الوطني، ليس لأنَّ العراق قطر عربي أو دولة كبيرة في المنطقة وحسب، بل لأنَّه العراق أولاً بما يمثله للأمة وبما له من تاريخ راقٍ وحضارات عظيمة، وبالتالي فهي خطوة استعمارية اشترك تحالف شرير في تنفيذها، مما أدَّى الى هيمنة أعداء العروبة على المنطقة، ومن ثمَّ اتاحة الفرصة التاريخية للفرس للتوغل في أرض العرب، وتعطيل طاقات الشعب العربي وتمزيق نسيجه الاجتماعي وتصفية قدراته الستراتيجيَّة، وكل هذا يَصُّب في المصلحة
الصهيونية واداتها الفارسية الصفوية، اذ يتحسب الأمريكان من احتمال استخدام الطاقات البشرية والقدرات الاقتصادية والعلمية والعسكرية العراقية ضِّد الصهاينة، حيث يحتَّل أمنهم ووجودهم أولوية متقدمة في العقل الاستراتيجي الأمريكي.
وللأسف فالنظام العربي يتصور واهماً أنَّ صداقة أمريكا تَتَّسِم بالثبات والديمومة، ويتغاضى عن حقيقة أنَّ أمريكا ليس لها الَّا صديق استراتيجي واحد في المنطقة، وهي على استعداد لمحاربة كل الدنيا من أجل هذا الصديق (الأزلي) ممثلاً بالكيان الصهيوني. والحقيقة الثانية الموجعة التي لا يدركها النظام العربي أيضاً هي أنَّ الأمريكان والصهاينة لهم حليف استراتيجي (باطن) في المنطقة وهم الفرس الصفويون.
انَّ هوية الجاني من دولة كبرى كأمريكا، ودولة مغتصبة لأراضٍ عربية كالكيان الصهيوني، ودولة أخرى معادية للأمة تعيش وهَم الامبراطورية الفارسية الكبرى التي ولَّت واندثرت الى الأبد، كل هؤلاء الجُناة من هذه القوى الثلاث الشريرة، قد تقاسمت العدوان على العرب.
وبعد ذلك ألا تُعطينا هذه الجريمة النكراء، صورة ساطعة عن قيمة وقَدْر المجني عليه ومكانته الشامخة؟ اذن هو العراق العظيم مَن يستهدفون، بتاريخه وحضاراته ووجوده، وهو البعث الخالد، والأمة العربية أجمع.
انَّ هوية الجاني تُحدِّد قيمة ومنزلة (الضحية) أو المجني عليه، وهي في نفس الوقت تُعَّد معياراً لتحديد مستوى الجريمة وبشاعتها، فالجاني بحقِّ العراق وشعبه الأبِيّ يعني لنا الشيء الكثير، انَّه يعني الشروع بجريمة اغتيال أمَّة بكاملها وقتل شعب بكامله، ومحاولة تدمير تاريخ انساني عظيم، وهو يعني في خلاصة القول ارتكاب أبشع جريمة بحقِّ الانسانية على مر العصور والدهور. ويبقى أنْ يعرف القارئ العربي الكريم، في مصلحة مَنْ كان احتلال العراق وتدميره ، وضِّدَّ مصلحة مَن؟ .انَّ جريمة احتلال العراق، تُعتبر سابقة خطيرة لم يرَ لها عالم اليوم مثيلاً، لذلك فإنَّنا لا نجد أحداً من الأحرار
والمنصفين في العالم لا يَلْعَن هذه الجريمة ومَن قام بها. فهذه الجريمة الشنعاء لا يقرها ضمير حيّ واعٍ، أو عقل سويّ، أو خلق انساني متحضر. كانت بحق جريمة كبرى على مستوى الانسانية جمعاء، توافرت فيها كل أركان الجريمة المنظمة والممنهجة والمُعَدة بعناية فائقة، والمُدَبَّرة بدقة لتدمير العراق والأمة وتقطيع اوصالها وتشريد ابنائها.
نقول، أنَّ العراق كان يُشَكِّل خطراً على الصهاينة المحتلين ومشروعهم الاحتلالي للأراضي العربية، ووجود حزب البعث وفكره الوحدوي التحرري هو الخطر الحقيقي الذي يراه الكيان الصهيوني وأمريكا. لذلك كانت جريمة العصر بغزو العراق واحتلاله.
انَّ الأمريكان والصهاينة يدركون جيداً بأنَّ هزيمة المشروعين الصهيوني والفارسي اللذان يستهدفان الأمَّة، لا يتم الَّا على يد مناضلي البعث العظيم، لذلك كان العدوان على العراق ونظامه الوطني، فالعراق(الضحية) يحمل تاريخاً مُشرقاً، مُشَّرِّفاً، وقيَماً راقية، وهِمَّة لا تدانيها هِمَّة من أجل تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة، وتحقيق وحدة الأمة وحريتها ورفاهيتها.
وفي الختام نقول، أنَّ الامل معقود على وعي الاجيال العربية الصاعدة لحجم المؤامرة التي تستهدف الامة، وتصديها للمشروعين الصهيوني والفارسي المدعومين من جهات خارجية وداخلية متعددة، وقناعتها بان ذلك يتم بالتمسك بالثوابت العربية الأصيلة المرتكزة على أرضية قومية صلبة، وبكل ثقلها التاريخي والحضاري. وكذلك بالتكامل العربي الذي لاغنى عنه في مثل هذه المواجهة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنَّ العدوان الفارسي انَّما يستند الى قضية خطيرة يتسربل منها بقناع الدين الزائف، وعليه لا بد من استنهاض قيم العروبة وجدانياً بعيداً عن التوجهات العِرقية والمذهبية التي تشتت العزائم وتضعف قدرات الأمة المطلوبة في التصدي للهجمة الفارسية الصفوية الشريرة. عند ذاك يمكن للأمة العربية جماهيراً ودولاً، أنْ تواجه وبكل قوة هذا الخطر والتمدد لأعداء الأمة في الأرض العربية.