مكتب الثقافة والاعلام القومي / احمد ابو داود
مقدمة
ان مفهوم العدالة في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي شامل وواسع يتضمن تطبيقات العدالة ليس فقط ضمن الاطار القضائي القانوني وحسب وانما يتعداه ليشمل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال تطبيق اهدافه الاستراتيجية في الوحدة والحرية والإشتراكية سواء لضمان تحقيق العدل بين المواطنين انفسهم ، أو تنظيم علاقة المواطن بمؤسسات الدولة، وضمان المساواة في الحقوق والواجبات التي يتمتع بها لصيانة حريته وكرامته.ومن هنا ترتبط العدالة بالديمقراطية المتمثلة ضمنا في أهداف فكر حزب البعث ارتباطاً وثيقاً لتصبح نموذجاً يتم من خلاله تحقيق التوازن الاجتماعي والاقتصادي في إطار النظام السياسي.
والعدالة في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي لا تنحصر في التطبيقات الداخلية على صعيد القطر الواحد فقط وانما تشمل مجالاتها البيئة الدولية ايضاً، بهدف المساهمة في تحقيق السلم والأمن في العالم، ووضع حد لاستغلال الشعوب والهيمنة عليها ، وتحقيق التوازن في العلاقات السياسية الدولية لأن استمرار التباين وانعدام التوازن والعدالة في توزيع الثروات في العالم يضع البشرية أمام مخاطر اندلاع الأزمات والحروب.
واذ يمر العالم اليوم بمتغيرات ومنعطفات شديدة الخطورة نتيجة لانعدام توازن القوى فيه وما يشهده من تطورات تقنية فائقة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية هائلة من شأنها تفاقم الخلل الخطير المتمثل في هذا الانعدام من جهة وتوسيع الهوة بين شعوب العالم القوية اقتصادياً وبين الشعوب النامية، وظهور ملامح لانماط جديدة للهيمنة تأخذ طابعا تقنيا وليس امنيا واقتصاديا فقط من جهة أخرى، فإن العودة إلى فهم مبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي في تحقيق العدالة في المجالات السياسية والاجتماعية تحتل أهمية كبيرة في سعي الامة العربية إلى تحقيق النهضة وسط كل هذه التحديات العالمية في الوقت الذي تخوض فيه الصراع من أجل الوجود والهوية إزاء شتى الاحتلالات ومشاريع الهيمنة الدولية والإقليمية، وعلى رأسها المشروع الايراني للولي الفقيه والمشروع الصهيوني المتكامل معه.
محورية العدالة
العدالة هي القوة الأخلاقية التي تضفي الحقوق في النظام الإجتماعي، من خلال تحقيق انتفاع الجميع من الثروة، وتحديد حقوق الأفراد وواجباتهم، وهذا ما يحقق العدالة المتبادلة.وترتبط العدالة بوظيفة الدولة ذات السيادة، لأنها جزء من اختصاصها وواجباتها الأساسية في تنظيم العلاقات بين الأفراد وبينهم وبين مؤسسات الدولة، وحل النزاعات وفق القانون من قبل سلطة قضائية مؤهلة ومستقلة ومحايدة.
إذاً، فالعدل، كما يفترض كبار الفلاسفة، يرتبط بالسلطة وبالقوة لأن “العدل بلا قوة عجز والقوة بلا عدل استبداد”.وبناءً على هذا الأساس نستنتج وجود علاقة جدلية بين السلطة، أي القوة المؤسِّسة للعدالة، وبين العدالة التي تشكل معياراً لشرعية السلطة، وهذا يعني أن بين العدل والسلطة علاقة مشتركة متكاملة.
من هذا المدخل العام تتضح أهمية العدالة للسلطة وأهمية السلطة لتحقيق العدالة، لذا فقد احتل موضوع العدالة في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي اهمية كبيرة، سواء على الصعيد التطبيقي الداخلي او صعيد العلاقات الدولية كمعيار لتحقيق الأمن والسلم في العالم، في إطار إعادة النظر بصورة شاملة في قواعد النظام الدولي الإقتصادية والسياسية والقانونية، فشكلت العدالة بأبعادها ومجالاتها المتعددة القاعدة الفلسفية للنظام الإجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي قام في العراق في ظل ثورة ١٧ تموز المجيدة.
العدالة الإجتماعية جوهر الحضارة الانسانية
مما لا شك فيه أن الإنسان بطبيعته وفطرته يريد العدالة، لأن غالبية الناس إنما ينتفعون من العدالة ويحتاجون اليها لتحقيق مصالحهم الحياتية الحقيقية.والعدالة، بصيانتها المصالح المتبادلة، تضمن الإستقرار الذي يوجب قدراً من التضحيات يقدمها الفرد في إطار مصلحة المجتمع ككل.لكن الوصول إلى العدالة لا يمر عبر تطبيق القانون تطبيقاً شكلياً وإنما تطبيقاً جوهرياً وفعلياً ، فهي أشمل من القانون ، وهي تتطلب إيجاد قوانين جديدة وتشغيل كل أنشطة المجتمع والدولة في خدمتها في الميادين الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.وهنا يدخل العُرف إلى جانب القانون في بناء نظام العلاقات الإجتماعية، الذي يؤطره النظام الأيدولوجي، الذي يُنتِج أو يُولِد هذه العلاقات.
لذا يؤمن حزب البعث العربي الاشتراكي أن جوهر العدل لا يستند إلى التطبيق الشكلي للقانون بل الأخذ بالحسبان خصائص البيئة الإجتماعية والمسألة الإنسانية، لكي لا يصبح القانون غطاءاً لقتل الجوهر الإنساني للعدالة.ولكي لا تفقد العدالة جوهرها يتم العمل على ضمان الحقوق والوقوف ضد الظلم والتعسف لخدمة الأهداف الإنسانية السامية لكل انسان وللمجتمع عموماُ.
ولقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان لكي يعبده ويعبر عن الحالة الروحية والأخلاقية المتصلة بقيم الايمان من جهة ،ويمارس واجبات الإنسان حيال اخيه الانسان والمجتمع من جهة اخرى.والعدالة في مجتمعنا تستند إلى قيم وتعاليم الدين الإسلامي الحنيف والاديان السماوية الاخرى التي ترفض ما هو غير أخلاقي في الحياة الإجتماعية وتنشر قيم الحق والفضيلة، و تحقيق العدالة الإجتماعية.
وقد سعى حزب البعث العربي الإشتراكي الى بناء نظرية دنيوية عبر قوانين الدولة تعكس مفهوم العدالة من خلال تعميق الإيمان وتوفير حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، في الوقت الذي سعى فيه الى تحقيق التقدم بصيغ عديدة من خلال تغيير الواقع الفاسد المتخلف ، وتحفيز قدرات الإنسان على الخلق والإبداع؛ وكل ذلك لكي تصان العدالة الإجتماعية وتترسخ.
العدالة والإشتراكية
يضع فكر حزب البعث شرط تحقيق العدالة في النظام السياسي والإجتماعي والإقتصادي في مقدمة عوامل إقامة المجتمع المنشود مؤكداً ضرورة وجود بيئة يتوفر فيها الإستقرار والأمن الاجتماعي.وهكذا تشكل العدالة الإجتماعية عنصراً جوهرياً في فكر البعث.
ويتميز مضمون فكر حزب البعث العربي الإشتراكي وخصائص تطبيقاته في بناء المجتمع الحديث بأنه يرتكز على دعوته الى تحقيق التوازن بين الأصالة والمعاصرة، أي بين قيم التاريخ والتراث الحضاري من جهة، ومتطلبات الواقع الراهن وآفاق المستقبل من جهة أخرى.ويستلهم حزب البعث العربي الاشتراكي في عقيدته ونضاله لتحقيق نهضة الامة العربية الحديثة مكونات التاريخ العربي الإسلامي والانجازات الحضارية الباهرة التي حققتها الأمة خلاله فأغنت بذلك الحضارة الانسانية.إن إدراك حزب البعث العميق لهذه القضية يستند إلى أهم مرتكزات الحضارة العربية – الإسلامية التي قامت على أسس العدل والمساواة كجوهر لتحقيق العدالة الاجتماعية.
ويؤمن حزب البعث العربي الاشتراكي أيضاً بضرورة التفاعل مع الفكر الإنساني لكي نستطيع تحديث المجتمع العربي ونحقق نهضته ؛ ومن هنا كانت الاشتراكية واحدة من أهدافه الاستراتيجية الثلاثة ومن بين أعمدتها الأساسية لإنجاز التحديث والقضاء على التخلف الذي نتج عن قرون من الاحتلال الاجنبي.ووضع على عاتق الدولة ،كي تحقق العدالة ، أن تتدخل على صعيد علاقات الإنتاج، ونمط الإنتاج، وضمان التوازن في السوق، والعدالة في توزيع الثروة بين المواطنين، دون حرمان القطاع الخاص من دور مهم في بناء المجتمع من خلال المشاركة في الاستثمار والإنتاج في إطار خطط الدولة وتحت رقابتها.لأن عدم مساهمة هذا القطاع يلحق ضرراً فادحاً بالمجتمع بتجميد جزء مهم من طاقته وإضاعة فرص التنافس الاقتصادي والإبداع الذي هو ضرورة أساسية للتطور ، وكل ذلك على حساب تطور الإنتاج كماً ونوعاً، وبالتالي حرمان المجتمع من فرص مهمة لتحقيق التنمية، وترك آثار سلبية على الحياة الاقتصادية تقود إلى انعدام العدالة الاجتماعية.وهكذا تشكل الإشتراكية العربية بمعناها الإنساني والشمولي جوهراً لتحقيق العدالة الاجتماعية.
العدالة ومؤسسات الدولة
تتطلب العدالة في جانبها العملي مجموعة من الإجراءات والقواعد المحركة للنظام الإجتماعي – السياسي من خلال مؤسسات الدولة، وعلى رأسها القضاء.وتحتل قدرة القضاء النزيه على التكيف مع الظروف والإمكانات والصيغ الإدارية لتحقيق العدالة أهمية خاصة، وذلك عبر التفاعل والتعاون بين سلطات الدولة من أجل تعميم قيم النزاهة والكفاءة وتحقيق العدالة على كل مستوياتها.
وبهذا يطرح حزب البعث العربي الاشتراكي مفهوماً جديداً للعدل الذي يحقق العدالة لجميع الشرائح والفئات والأعراق في إطار الشعب الواحد؛ وفي هذا فإن فكر حزب البعث يعارض الانتقاء في تطبيق العدل، ذلك الانتقاء الذي يضمن مصالح الرأسماليين على حساب الفئات الأخرى في المجتمع من خلال تأثير سلطة البرجوازية السياسية على القضاء كما يحصل في الدول الرأسمالية.
إن حزب البعث العربي الاشتراكي يؤمن بأن تحقيق العدالة يكمن في تعامل السلطة السياسية مع الشعب بشكل واحد ومتساوٍ على اختلاف شرائحه وانتماءاته السياسية والدينية، واعتماد حيادية العدالة في إطار اجهزة الدولة، إضافة إلى تطبيق معايير العدالة بصورة عامة ومجردة على الجميع لتوفير الرخاء والتطور العلمي والتقني و النهضة الحضارية الشاملة للأمة العربية وتثبيت الأسس والمعايير التي تحقق التوازن في العلاقة بين السلطة السياسية والشعب، وضمان التفاعل والتأثير المتبادل وتمكين السلطة السياسية من ممارسة دور الموجّه في الدولة والمجتمع ودور الرقيب على المؤسسات الرسمية.إن العدالة بهذا المعنى في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي تضفي الشرعية الأخلاقية على السلطة السياسية وعلى شرعية الدولة نفسها.
وعبر هذا المنطق والقدر من الثقة والقناعة بحكمة وعدالة القرارات والسياسات التي تضعها الدولة، يتوفر قدر عالٍ من الإستقرار السياسي والإجتماعي والاقتصادي الذي هو القاعدة الاساسية للتقدم والنهضة.إذاً، لكي يتم التأكد من قيام السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية في الدولة بواجباتها، يجب تفعيل ومواكبة تقييم أبناء الشعب لأداء تلك السلطات وضمان إيمانهم بعدالتها ، أما إذا تولد شعور في أوساط الرأي العام الشعبي بانعدام العدالة ، فسيرفض الشعب الخضوع للسياسات غير العادلة في توزيع الموارد والثروات كما سيرفض خرق مبادئ حقوق الانسان والديمقراطية.
والعلاقة بين العدل والنظام السياسي في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، مبنية على قاعدة النزاهة والكفاءة في المؤسسات السياسية، والمساواة الإجتماعية والإقتصادية على صعيد الحقوق والواجبات، في إطار احترام الحريات العامة، وحقوق الإنسان التي يكفلها القانون لكي تعبر عن نفسها بالأشكال المختلفة لممارسة الحقوق الديمقراطية.
العدالة والديمقراطية
لقد آمن حزب البعث العربي الاشتراكي بهذه المبادئ السامية فوضعها ضمن اهدافه الاستراتيجية العليا بعد الوحدة وهي الحرية والاشتراكية.وبصورة عامة تعد مسألة الديمقراطية وصيغها الدستورية من أكثر المسائل تعقيداً في العالم ، وستبقى تشغل الفكر الإنساني والسياسي، وهي – أي الديمقراطية – في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي تتحقق من خلال تحقيق ثلاثة أهداف، هي :
• إشراك الشعب في المسؤولية العامة من خلال انتخاب ممثليه في السلطة التشريعية.
• تشجيع المبادرة والإبداع
• توفير بيئة لانتشار نمط الفعل الجمعي لتحقيق التفاعل وإتاحة حرية تشكيل منظمات وجمعيات المجتمع المدني للنفع العام ، وتأسيس قاعدة للعدالة المتبادلة.
ومن خلال ذلك تصبح العدالة مترابطة مع الديمقراطية لكي تعكس روح الحرية وترفض روح الإستبداد.
واذ نعيش اليوم في عصر تتقدم فيه المفاهيم الديمقراطية ويتسع انتشارها وتأخذ أنماطاً مختلفة ومتنوعة في حياتنا السياسية والإجتماعية والإقتصادية، فإن النظام الرأسمالي الدولي يستخدم اليوم مسألة الحريات الديمقراطية ومباديء حقوق الإنسان ذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للدول، مما يوجد وضعاً أزموياً في العلاقات الدولية.وهذا يتطلب بذل جهود دولية لمنع الإمبريالية وأذرعها والمنظمات والشركات المتعددة الجنسية والعابرة للحدود من استغلال هذه المباديء السامية لأغراض الهيمنة على الشعوب ومقدراتها ومواردها ؛ وكذلك يتطلب تحقيق الديمقراطية الحقّة توعية الجماهير بمحاولات استغلال هذه المبادئ النبيلة وتشويهها لصالح المشاريع الشريرة ضد الامة العربية.
ونتيجة للبعد الدولي لكل ذلك ، يؤمن حزب البعث العربي الاشتراكي بأن تحقيق العدالة والديمقراطية يتم ايضاً في إطار الكفاح المشترك للشعوب والدول لتصفية ظاهرة انعدام العدالة في العلاقات الدولية، حيث تزداد ثروات الدول الرأسمالية الغنية بفعل الاستمرار في إفقار شعوب الدول النامية.
وتعد الديمقراطية، أداة فعالة لتحقيق العدالة عن طريق توزيع تقسيم العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي في إطار الدولة ومؤسسات المجتمع لكي يتحقق التوازن والإستقرار الداخلي للنظام وضمان تحقيق الفرص بصورة متساوية للجميع.
إن المباديء الجوهرية التي يؤمن بها حزب البعث العربي الاشتراكي في مجال الديمقراطية، تؤكد حق أبناء الأمة في اختيار أنظمتهم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، وبناء العلاقات بين الدول في العالم على أسس العدل والإنصاف والمساواة والإحترام المتبادل لتحقيق غايات حقوق الإنسان ، والحرية ، وحق الشعوب في تقرير مصيرها والتحرر من الهيمنة والتبعية الاجنبية وصيانة الإستقلال.
العدالة في العلاقات الدولية
بغية إرساء دعائم وطيدة للتحرر وللإستقلال عن طريق الإنماء والتطور، يكاد يتحد في هذا المجال ما هو وطني مع ما هو قومي، وما هو عالمي وإنساني في فكر حزب البعث الذي يؤمن بالتوازن بين الأصالة والمعاصرة من جهة وبين الحاضر والمستقبل من جهة أخرى، كما يؤمن بالعلاقة والتفاعل بين الوطني والقومي والإنساني.
وانطلاقاً من هذه الرؤية يؤمن حزب البعث العربي الاشتراكي بأن المعاصرة تحتم التفاعل مع العصر ومع شعوب العالم من أجل تحقيق المواكًبة ، وفي نفس الوقت ضمان أمن عادل ومتوازن لجميع الشعوب بغض النظر عن اللون والجنس ، بما يؤمّن الحق في الحياة والتعبير عن الذات القومية للأمة العربية بما تعنيه من ثقافة ولغة وصيرورة تاريخية؛ ففي الوقت الذي يعادي فيه حزب البعث العربي الاشتراكي الإستعمار بمختلف أشكاله القديمة والجديدة، ويتصدى لمشاريعه الاقليمية والدولية الخطيرة ،فإنه يسعى إلى التعاون الوثيق بين الدول النامية لتوسيع فرص التنمية والتطور فيها وللإسهام إيجابياً معها في السياسة الدولية بما يضمن الدفاع عن حقوقها بوجه المطامع الاستعمارية.
وبعد انتهاء الحرب الباردة نشأ وضع دولي جديد، تمثل في نظام القطب الواحد الذي انفردت فيه الولايات المتحدة الأمريكية للهيمنة على العالم في إطار استراتيجية تؤمن بتغليب الصراع والقوة، واستخدام مختلف أشكال العنف ضد الشعوب، بما فيها شن الحروب لفرض النظام الرأسمالي على العالم و انتزاع الإمتيازات والإستثمارات والسيطرة على الثروات ومصادر الطاقة والأسواق الكبرى.وفي إطار هذه الإستراتيجية،عمل نظام العولمة الرأسمالية على توسيع الهيمنة الاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية على كافة شعوب العالم.
ولمواجهة هذا التحدي يؤمن حزب البعث بأن العدالة تقتضي على الصعيد الدولي إزالة الفوارق الحادة بين الأغنياء والفقراء من شعوب العالم من خلال التوزيع العادل للثروة، وضمان حرية انتقال العلوم والتكنولوجية، ومنع الاستغلال الاقتصادي والهيمنة الاستعمارية بشكلها الجديد.
ومن هنا يرى حزب البعث أن أفضل الطرق لتحقيق العدالة في العالم هي دراسة العناصر الإجتماعية والإقتصادية للأزمات والتحديات التي تواجهها الامة العربية ، و العمل مع دول وشعوب العالم النامية لوضع حلول جدية للأزمات والمشكلات العربية والدولية ذات الطابع الإجتماعي والسياسي والإقتصادي عبر إجراء حوار معمق بشأن مستلزمات الأمن الحقيقي للأمة العربية ودراسة الوسائل الكفيلة بخلق فهم دولي مشترك ومساند لحقوق أبنائها ولقضاياها الرئيسية.
ويحترم حزب البعث العربي الإشتراكي في هذا الإطار الدور الإيجابي والبنّاء للمنظمات الدولية والقانون الدولي والشرعية الدولية، طالما أنها لا تمارس ازدواجية المعايير والصيغة الإنتقائية في معالجة المشكلات الإقليمية والدولية، ولا تخضع لهيمنة هذه القوة أو تلك.فقرارات “الشرعية” الدولية، يفترض أن تطبق ميثاق الأمم المتحدة والقرارات الدولية المتعلقة بضمان السلم والأمن بروحية واحدة على جميع الشعوب والدول، دون اللجوء إلى الإنتقائية في التعامل مع الأزمات والصراعات الدولية، وفي إطار الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الاطراف لضمان الأمن المتبادل ، ومن خلال عقد المؤتمرات الدولية من أجل الأمن والسلام ومنع اندلاع الحروب.وهذا لايتم إلا عندما تحترم الدول الكبرى إرادة السلام عبر التفكير جدياً بضمان الأمن الدولي من خلال ترسيخ علاقات تفاعلية تبادلية متكافئة بين كل الأمم والدول والشعوب.
ويرى حزب البعث العربي الاشتراكي أن المجتمع الدولي المؤمن بإرادة السلم والأمن يتحمل مسؤولية أخلاقية لحماية الشعوب والدول النامية من هيمنة العولمة المتوحشة واحتكارها للثروات والاستثمارات والتكنولوجية والتحكم بانظمة الاتصالات والفضاء، مما كرس ظاهرة التخلف والفقر والبؤس والحروب في البلدان النامية؛ وهذا ما يفرض واجباً أخلاقياً على المجتمع الدولي للعمل بصورة جدية من أجل ضمان التحرر والإستقلال للشعوب، ومن أجل بناء عالم يسوده التفاهم والتعاون لخدمة قضايا الإنسانية في الحرية والعدالة وحق الشعوب في استثمار ثرواتها للحصول على مقومات حياة تليق بالكرامة البشرية.
ويؤمن الحزب بضرورة تحقيق التوازن والتكافؤ في العلاقات الدولية على أساس الإحترام المتبادل بين الدول في إطار احترام حق الشعوب في تقرير المصير واختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإمتناع عن استخدام القوة العسكرية كأداة وحيدة لحسم النزاعات أو التهديد بها للهيمنة ، واحترام حق الإنسان في الحياة والتعليم والصحة والعمل والكرامة والبقاء بعيداً عن أساليب الهيمنة والإحتكار التي تعارض مباديء حقوق الإنسان وحق الشعوب في التحرر والإستقلال.
العدالة الاقتصادية على الصعيد الدولي
إن جوهر العدالة أو مبادئها على صعيد العلاقات الدولية لا يتحقق إلا بالعدالة الإقتصادية، أي العمل على إزالة جميع أنواع الإستغلال أو التمييز على الصعيد الإقتصادي من أجل الوصول إلى نظام إقتصادي دولي عادل عبر الإيمان بحق الشعوب في السيطرة الكاملة والفعالة على ثرواتها الطبيعية.
ولا يمكن الحد من الهيمنة الاقتصادية الرأسمالية إلا من خلال تعميق التعاون الدولي وإحداث تغييرات جذرية في هيكل العلاقات الاقتصادية الدولية من خلال إعادة هيكلة النظام الإقتصادي لبناء نظام إقتصادي دولي عادل لأن السلم العالمي يقتضي علاقات إقتصادية عادلة ومتكافئة في إطار احترام الهوية الوطنية ومباديء الإستقلال ورفض التبعية الإقتصادية، مما يساعد على بناء نظام اقتصادي دولي جديد متوازن ومتكافيء يستطيع تخفيف آثار الفجوة في التطور بين الدول الصناعية الرأسمالية والدول النامية، لكي تتمكن جميع الشعوب والدول من الإسهام بصورة مشتركة وفعالة في بناء السلم العالمي وتحقيق الإستقرار والأمن بما يكفل حرية الشعوب وكرامتها.
واليوم يعد تحقيق هذا الهدف تحدياً كبيراً ومصيرياً لجميع الشعوب النامية في ظل التطورات التقنية العالية والتهديدات الصحية وانتشار الاوبئة غير المسبوقة التي تواجهها البشرية، حيث من المتوقع أن تساهم هذه التحولات والظواهر في محاولة فرض تغييرات جذرية على الواقع الاقتصادي للدول والشعوب وعلى العلاقات الاجتماعية والاتصال وفرص العمل فيها ، وغيرذلك من التاثيرات الجوهرية والعميقة الهادفة إلى تكريس هيمنة احادية غير مسبوقة لصالح من يمتلك تلك الوسائل.
إن كل ذلك يتطلب المزيد من الوعي بهذه المتغيرات الخطيرة المتسارعة ، والمزيد من التفاعل بين الشعوب لجعل تلك التطورات والمتغيرات تصب في صالح البشرية ،وليس العكس، أي توظيفها لمنع الهيمنة واستغلال الإنسان وموارد الشعوب.