يوم النصر: القادسية الثانية (حين تَكسَرَتْ أمواجُ التّاريخ على صَخْرَةِ الإرادة)
8) آب/أغسطس 1988 – ذكرى النصر العراقي على العدوان الإيراني)
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة – السودان
لم يكن يوم (الثامن من آب – اغسطس-1988م) حدثًا عابرًا في رزنامة الحروب، بل كان نقطة انكسار الزمن لصالح الإرادة، ويقظة وعيٍ قوميّ خرج من بين أنقاض الجراح، ليرفع صوته عاليًا، هنا العراق العظيم، وهنا أمة عربية لا تنكسر. لم تكن (القادسية الثانية) مجرد معركة على الحدود، بل كانت المعنى حين يُختبر، والرسالة حين تتحول من بيانٍ إلى رد تاريخى.
ثماني سنوات من الاستنزاف، لم تفتّ في عضد الجسد العراقي البطل، بل كانت اختبارًا قاسيًا لمعدن الروح، للجوهر الأعمق لما يجعل الإنسان مقاومًا في وجه قدرٍ ظاهريٍّ كُتب له أن يستسلم. لكن عراق-تموز لم يستسلم. والفرق أن العدو كان يواجه شعبًا لا جيشًا فحسب؛ يواجه ذاكرةً منقوشة في الوعي القومي منذ سومر وبابل وكربلاء وصلاح الدين ، ذاكرة تعرف أن النصر لا يُقاس بعدد الطلقات، بل بلحظة يتحول فيها الموت إلى فعلٍ خلاق للحياة . لم يكن النصر مجردةً أرقامًا عسكرية، بل كان دماءً أراقها الآلاف ليكتبوا بتضحياتهم سفرًا جديدًا للنخوة والعزة، وامتدادا حيا للتاريخ.
لم تكُن معركة النصر مجرد لحظة عابرة في سجل الحروب المفروضة، بل كانت ذروةَ سلسلةٍ من المعارك التي حوّلت الهزيمةَ المؤقتة إلى انتصارٍ دامغ ودائم . ففي تحرير الفاو مدينة الفداء وبوابة النصر العظيم (17 نيسان 1988)، أعاد الجيشُ العراقي كتابةَ قواعد اللعبة العسكرية، ليس فقط باستعادة الأرض، بل بتحطيم أسطورة (العدو الذي لا يُقهَر). كانت الفاوُ اختبارًا للإرادة، حيث تحركت القواتُ كالسيلِ الذي لا يُردّ، مدعومةً بخطةٍ عسكريةٍ محكمةٍ حوّلت المدّ الإيراني الشعوبي إلى موجةٍ تتهاوى على صخورِ الصمود. أما القيادةُ العراقية، فلم تكن مجردَ غرف عملياتٍ مغلقة، بل كانت عقلًا استراتيجيًا يقرأُ الجغرافيا والتاريخَ معًا ويجسد بالحضور الميدانى وفي الخطوط الأمامية التاريخ في الحاضر. للمستقبل ، فجمعت بين حسمِ القرارِ على الأرضِ وروحِ المقاومةِ التي أشعلتها في كل جنديٍ عراقي وفي كل بيت من زاخو الي الفاو. هنا، لم يكُن النصرُ رقمًا في تقريرٍ عسكري، بل كانَ إثباتًا أنَّ الإرادةَ تُعيدُ تشكيلَ ساحةِ المعركةِ قبلَ أن تُحرّرها.
لكنَّ النصرَ، ككلِّ ولادةٍ عظيمةٍ في التاريخ، لم يأتِ دون مخاضٍ من الدماءِ والدموع والتضحيات. فخلفَ الأرقامِ الرسميةِ عن المعارك، كان هناك أطفالٌ لم يعودوا إلى مدارسهم، وأمهاتٌ علّقتْ قلوبَها على شواهدِ القبور، وجنودٌ كتبوا أسماءَهم على جدرانِ الخنادقِ بأحرفٍ من نور. لم تكن التضحياتُ مجردَ خسائرَ في سجلٍّ عسكري، بل كانت أرواحًا تدفقتْ كالنهرِ العارمِ لتروي شجرةَ الحرية، خلدها نصب الشهيد، وفاء باروع تصميم معماري هندسى. حتى المدنُ التي بُعثتْ من تحت الأنقاض، ظلّت تحملُ في ذاكرتها صرخاتِ الأبرياءِ الذين سقطوا تحتَ وطأةِ القذائفِ والجوعِ والحصار. هؤلاء لم يموتوا، بل صاروا وقودَ النصرِ الخفيّ، وضميرًا حيًّا يُذكّرنا أنَّ الحريةَ لا تُشترى إلا بالعزائمِ التي لا تنكسر.
كلما اشتدّت الضربات، انصهرت الأجساد في روحٍ واحدة، *وغدت الاعظمية كاظمية”، حتى أصبح الدفاع نفسه هجوميًا على الزمن، على المعنى، على من أرادوا للعراق أن يسقط كي تسقط الأمة العربية من بعده. فكان الانتصار لا استعادة لما كان، بل ولادة لما سيكون.
النصر، كما يفهمه البعث، ليس غلبةً عسكرية، بل موقفًا وجوديًا، أن تبقى واقفًا حين يُراد لك أن تسقط. أن تقول (نحن) في زمن التشرذم. أن تعيد للبطولة معناها، وللمشروع القومي رسالته. وكما عبّر القائد المؤسس ميشيل عفلق، فإن الثورة ليست لحظة غليان، بل حالة دائمة من الوعي، والتجدد، والمجابهة. القادسية الثانية كانت تجسيدًا حيًّا لهذا المعنى، حين عبرت النظريةُ عن نفسها بحشد الروح والارادة، وحين كتب العراقيون – باللحم والعصب – أن الرسالة الخالدة لا تموت.
لم تكن (القادسية الثانية) مجردَ تكرارٍ لسابقتها، بل كانت انزياحًا تاريخيًا يُعيد تشكيل الأسطورة بأدوات العصر الحديث. فإذا كانت القادسية الأولى (636م) قد حوّلتْ نهرَ الفرات إلى شاهدٍ على انتصارِ الإرادة العربية على إمبراطوريةٍ كافرة و متغطرسة، فإن القادسية الثانية حوّلتْ صحراءَ العراق إلى لوحةٍ كُتِبَتْ بالدبابات والدماء، لكنها حملتْ الروحَ ذاتها والايمان ، روحَ المؤمنين الذين ينتصرون على جبروتِ القوة الغاشمة. هنا، لم يكُن الفارقُ في الأسلحة أو التكتيك، بل في أن كِلتا المعركتين كانتا صراعًا بين مشروعين: مشروعٌ يريدُ فرضَ هيمنته، وآخرُ يرفضُ أن يكون ملحقا او تابعا وانما حامل رسالة. لكنّ القادسية الثانية أضافتْ بُعدًا تراجيديًا لم تعرفه الأولى، الحربُ الحديثةُ التي تطحنُ البشرَ بالمدافع والصواريخ والطائرات، حيثُ لم يعد السيفُ هو الفاصلَ الوحيد، بل أيضًا القدرةُ على تحمّلِ سنواتٍ من الدمار. ومع ذلك، بقي الجوهرُ واحدًا، فالعراقُ يُنتجُ أسطورتَه من رحم المأساة، كالمُحارب القديم الذي ينهضُ كلّما سقط.
وفي هذا اليوم، لا بد من أن نعود إلى نقطة البداية. لا كتكرارٍ لما كان، بل كبوصلةٍ لما ينبغي أن يكون وامتدادا لنقطة البداية، العودة إلى عام (1947) ليست حنينًا إلى لحظة الميلاد، بل استدعاء للشرارة الأولى التي أطلقت مشروع النهضة، يوم كان البعث فكرةً في حالة اشتعال، ( وحدة، حرية، اشتراكية). واليوم، في زمن التصدع والانقسام، تبدو العودة إلى الجذر، لا كماضٍ، بل كطريق للمستقبل. فكما وُلِدَ النصر من رحم المحنة، فإن النهضة الجديدة تُولد من لحظة الوعي بأن الرسالة لا تموت إذا حملها شهداؤها في دمهم، لا في شعاراتهم.
وفي هذه اللحظة، لا يمكننا إلا أن نركع إجلالاً أمام شهداء الأمة العربية في كل الميادين. أولئك الذين سقطوا في فلسطين وهم يقاتلون لإبقاء النبض عربيًا رغم مجازر الإبادة . أولئك الذين واجهوا الاحتلال في لبنان، وفي الجولان، وفي اليمن،وفي سيناء، وفي ليبيا، وفي السودان، في العلمين و عين جالوت وحول القدس…، وفي كل ساحة كانت المعركة فيها عنوانًا للشرف. وإلى شهداء القادسية الثانية، الذين جعلوا من الوديان والاهوار والصحارى ملحمةً، ومن الجراح قصيدة. وإلى شهيد الحج الأكبر، صدام حسين، الذي واجه قدره مؤمنا واقفًا، كما يليق بقادة يولدون من رحم الأمة العربية ومعاناتها النضالية، لا من صدفة السلطة. لقد كان استشهاده، واستشهاد رفاقه، حسن ختمًا لمرحلة ، وبداية لسؤال جديد، من يحمل الراية؟ من يكتب بيان البيانات القادم؟ من يواصل الطريق؟
يوم النصر لا يكتمل في ذاته، بل حين يُربَط بدائرة المعنى الأكبر، أن انتصار العراق يومها لم يكن انعزالًا، بل مفصلًا في صراع الأمة العربية المركزية في فلسطين، وحائط صدٍّ أمام تمددٍ فارسيٍّ أراد تفكيك العروبة من خاصرتها الشرقية. القادسية الثانية كانت رسالة إلى كل عربيّ يقاوم، بأن المقاومة ليست بندقية فقط، بل منظومة وعي، واعداد بمستوى رسالة، وحضارة. وأن النصر في العراق كان تمهيدًا لصمود بيروت، ودعمًا لصبر غزة، وصدىً لحجارة جنين ونابلس والخليل. والهاما للانتفاضات الشعبية، الأمة العربية واحدة، وملاحمها أجزاء من ملحمة كبرى لا تكتمل إلا بالتحرير الشامل، والانبعاث القومي الوحدوي، والعدالة الاجتماعية.
في يوم النصر، نتأمل لا لنتذكر فقط، بل لنواصل. لأن الأمم التي تنتصر لا تنام على أمجادها، بل تصحو في كل فجر لتعيد تعريف المجد. النصر الحقيقي هو أن نواصل الحرب والجهاد والمقاومة حتى في زمن السلم؛ أن نعيد بناء الإنسان العربي، وعيًا، وكرامة، وموقفًا. لأن الذي انتصر في القادسية الثانية لم يكن جيشًا فقط، بل شعبا من المحيط الي الخليخ، أمة عربية صممت ألا تموت.
لم تكن ساحاتُ القتالِ وحدها هي التي شهدتْ صناعةَ النصر، بل أيضًا البيوتُ التي رنّتْ بأغاني المقاومة، والمقاهي التي سمعتْ قصائدَ الفخرِ والألم. فالثقافةُ الشعبيةُ كانت جبهةً موازيةً تُذكّي روحَ الصمود، التي حوّلتْ جراحَ الجنود إلى نغماتٍ تذرفُ الدمعَ والكبرياء معًا. أو قصيدة (العراقُ ينتصر)، لمظفر النواب، التي صارتْ هتافًا جماعيًا يُردّدُه المقاتلون بين الخنادق. حتى الأغنياتُ الشعبيةُ العفوية الشجية، تحوّلتْ إلى رثاءٍ للمفقودين وتمجيدٍ للأحياء. فالفنُّ في زمن الحرب لم يكُن ترفًا، بل كان سلاحًا يُعيدُ تركيبَ الذاكرة الجمعيةُ، ويحوّلُ الهزيمةَ المؤقتةَ إلى أملٍ، والموتَ إلى خلود. واليوم، حين نعيدُ سماعَ تلك الألحان، ونقرأ قصائد حميد سعيد، ويوسف الصائغ وغيرهم نكتشفُ أن النصرَ لم يكُنْ مجرّدَ حدثٍ عسكري، بل كان صوتًا يتردّدُ في وجدانِ كل عراقيٍ وعربي يعرفُ أن الدمَ يُنبتُ زهرَ الحرية ويشعل قنديل الاتى.
وفي النهاية، ليس السؤال: كيف انتصر العراق؟ بل: كيف سيبقى انتصاره حيًّا فينا؟ كيف نحمله من معركة إلى معركة، ومن جيل إلى جيل؟ لم يُطرح سؤال، كيف نستلهم النصر اليوم في مواجهة التحديات الراهنة (فشل الدولة القطرية، مقاومة الاحتلال الأمريكي، التقسيم الطائفي والمذهبي والجهوى… ). لأن القادسية الثانية ليست صفحة طُويت، بل شعلة علينا أن نُبقيها مشتعلة، حتى تُحرر الأمة العربية . السؤال ليس كيف انتصرنا بالأمس، بل كيف نُحيي هذه الإرادة اليوم لمواجهة العدوان والفساد والاستبداد والافراط في التبعية الاستقواء بالاجنبى.