بين الذكاء الاصطناعي والإبادة:  (بلانتير تكنولوجي وأكس كارب – الوجه المظلم للتقنية في الصراع العربي -الصهيوني) الجزء الثاني

المِنَصّة الَشبابيّة

انطلاقا من حقيقة ان الشباب هم صناع الحاضر العربي وجوهر قوته وحيويته وهم قادة مستقبله ، فقد تم تأسيس هذه المنصة الشبابية لتكون باباً جديداً من ابواب النشر لمكتب الثقافة والاعلام القومي لتطل على الشباب العربي من خلال مناقشة شؤونه و طرح قضاياه  الراهنة و التعبير عن تطلعاته المستقبلية. وهي مخصصة  حصرياً لنشر كتابات الشباب وابداعاتهم في المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية وذلك لتعميق مساهمتهم في الدفاع عن قضايا امتنا العربية وصناعة مستقبلها. كذلك فان المنصة تعنى بمتابعه مايصدر من موضوعات  ثقافية واعلاميه وفنية في وسائل الاعلام العربية ودول المهجر والتي لها علاقة بقضايا الشباب في الوطن العربي،  وترجمة ونشر ما يخدم منها في مواجهة تحديات الامة وتحقيق نهضتها الحضارية الشاملة .

بين الذكاء الاصطناعي والإبادة:

 (بلانتير تكنولوجي وأكس كارب – الوجه المظلم للتقنية في الصراع العربي -الصهيوني)

الجزء الثاني

 

    أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

 

تناولنا في الجزء الاول كيف ان العالم يُسوق الذكاء الاصطناعي كأمل الإنسانية الجديد، ورغم وجود استخدامات مفيدة له، يتكشّف وجهٌ آخر أكثر قتامة حيث تستغل هذه التقنية الجديدة  لبرمجة القتل. وقد برز ذلك واضحاً في اخر صفحات الصراع العربي الصهيوني. ومن بين اشهر الجهات المعنية هي شركة بلانتير تكنولوجي ووحدة الاستخبارات 8200 ، واستخدام نظام (لافندر) بوصفه خوارزمية للقتل البارد. وبينّا كيف تستخدم مثل هذه التقنيات كأداة استعمارية جديدة.

   إنّ السؤال الأخلاقي لم يعد محصورًا في (كيفية إصلاح الخوارزمية؟)، لأن هذه الخوارزميات لم تولد معطوبة؛ بل صُممت لتخدم مصالح من يملك السلطة. بل السؤال الجذري هو (كيف نحاكم الشركات التي تمارس الحرب عبر الشفرة؟ وكيف نعيد الاعتبار للعدالة الإنسانية في وجه من يحول الحياة إلى معادلة خسارة وربح؟). إنها وسائل استعمارية من نوع جديد، حيث لا تحتاج الإمبراطورية إلى احتلال الأرض، بل إلى السيطرة على سُحب البيانات.

 سادساً: المواجهة الأخلاقية والسياسية،  كيف نكبح خوارزميات القتل؟

 في مواجهة هذا الانزياح المرعب نحو (العنف المؤتمت)، تُطرح ضرورة استراتيجية عاجلة: كيف نعيد ضبط العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا؟ وكيف نُسائل النظام العالمي الذي يمنح شركات التقنية حصانة تتجاوز القوانين الدولية؟. لقد آن الأوان لبلورة جبهة مقاومة متعددة المستويات، لا تكتفي بالإدانة الأخلاقية، بل تنتج بديلاً معرفيًا ومؤسساتيًا يواجه هذه الطغمة الخوارزمية. وفيما يلي اهم جوانب المواجهة.

 اولاً : المساءلة القانونية والمؤسساتية

وتشمل هذه المساءلة ما يلي :

    أ‌. تشريعات دولية جديدة: يجب على العرب دعم الجهود الدولية الساعية الى تطوير إطار قانوني عالمي يُصنّف استخدام الذكاء الاصطناعي في عمليات الاستهداف والقتل الجماعي كـ (جريمة حرب) أو (جريمة ضد الإنسانية)، بصرف النظر عن هوية الجاني أو الضحية.

    ب‌. تجريم الخوارزميات المميتة: على غرار (اتفاقية حظر الألغام)، يمكن للعرب المبادرة بالدفع نحو اتفاقية دولية لحظر أنظمة التصنيف الآلي للأشخاص في السياقات العسكرية، خصوصًا تلك التي تعتمد على احتمالات غير يقينية.

      ت‌. محاكمات جنائية للشركات: يجب توسيع مبدأ (المسؤولية الجنائية للشركات) ليشمل مزودي البرمجيات والمنصات التي تُستخدم في ارتكاب مجازر خوارزمية.

     ثانياً: الجبهة العربية

  على العرب شعباً ومنظمات وحكومات، الانتقال من التنديد إلى الفعل: فرغم صمت رسمي عربي يكاد ينحدر إلى التواطؤ، لا تزال هناك إمكانيات للتحرك يمكن تلخيصها بالاستراتيجيات التالية:

 تبني حملات دبلوماسية قانونية في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان ضد الشركات المتورطة في جرائم الحرب، مثل بلانتير.

  • فرض حظر أكاديمي وأمني وتقني على هذه الشركات داخل الدول العربية، وقطع أي علاقات تجارية معها.
  • دعم حركة “العدالة الخوارزمية” عبر المنظمات الحقوقية، وتقديم ملفات قانونية للهيئات القضائية الدولية.
  • تفعيل المقاطعة التكنولوجية كامتداد لحملات مقاطعة الكيان الصهيوني المعروفة باسم (BDS) ، وسحب الاستثمارات، والعقوبات.

 ثالثاً: بناء أخلاقيات مضادة

  من (الرقمنة الأخلاقية) إلى (الذاكرة الخوارزمية): لسنا أمام مشكلة تقنية فقط، بل أزمة قيمية وحضارية. فهذه الخوارزميات تستند إلى رؤية للعالم ترى الإنسان كرقم إحصائي، يُختزل إلى سلوكيات ونقاط على شبكة رقمية. لذلك، يجب على العرب المبادرة للدعوة الى بناء منظومة أخلاقية مضادة تتضمن ما يلي :

     أ‌. منهجيات تقييم أخلاقي للذكاء الاصطناعي العسكري ترفض فكرة (الخطأ المقبول).

    ب‌. تجريم خطاب (النفعية الخوارزمي) الذي يُسوّغ المذبحة بدعوى (فعالية الحرب (

    ت‌. تبني فلسفة رقمية إنسانية تُعيد الاعتبار للسياق، والتاريخ، والعدالة كقيم تتجاوز الكفاءة.

 رابعاً: مقاومة معرفية وثقافية

  إذا كانت خوارزميات بلانتير تكتب مصير شعبنا في فلسطين في سطر من الشفرات، فعلينا نحن أن نكتب تاريخنا بلغة الذاكرة المقاومة  وهذا يتضمن:

     أ‌. رقمنة سرد وجهة النظر العربية الفلسطينية وتوثيق المجازر بلغة تكنولوجية لا تُعادي التقنية، بل تعيد توجيهها للعدالة.

     ب‌. تأسيس تحالف أكاديمي عالمي ضد عسكرة الذكاء الاصطناعي، يضم مفكرين وتقنيين وأخلاقيين.

     ت‌. إنتاج خوارزميات بديلة مضادة للاستعمار الرقمي، تعزز التمييز بين المراقبة للحماية، والمراقبة للقتل.

     ومن نماذج المقاومة الناجحة، مبادرات مقاطعة تمت في (2021)، حيث نجحت حملة مقاطعة شركة NSO ” الإسرائيلية”، (صاحبة برنامج بيجاسوس) بعد ضغط دولي قادته منظمة العفو الدولية، مما أدى إلى شبه إفلاسها.  لذا يمكن تطبيق نموذج مماثل على شركة بلانتير وما شابهها عبر تحالفات حقوقية تبادر الى الدعوة اليها الحكومات والمنظمات العربية الحقوقية و تلك المعنية بحقوق الانسان وغيرها .

      سابعاً: نحو جبهة خوارزمية إنسانية

إننا لا نعيش فقط صراعًا سياسيًا أو جيوسياسيًا، بل نخوض صراعًا إبستمولوجيًا على تعريف الإنسان: هل هو مجرد كتلة بيانات تُدار بالاحتمالات الرياضية ، أم كائن أخلاقي له حقوق لا يمكن تنميطها أو حذفها برمجياً؟

  ما يحدث اليوم هو إعادة برمجة الإبادة الجماعية بلغة السيليكون والدوائر الإلكترونية، وعليه فإن معركتنا ليست فقط ضد أدوات القتل، بل ضد الأسس الفلسفية التي تمنحها الشرعية.  إذا لم يُخلق وعي عالمي جديد يواجه هذه التقنية القاتلة، فإننا نُسلّم مستقبل البشرية لأرقام لا روح لها، وبرمجيات تُغذّى على الأيديولوجيات المعادية وتُنفّذ القتل دون تأنيب ضمير.

 خاتمة: الذكاء الاصطناعي بين وعد التحرير وخطر الإبادة

  إن قصة بلانتير وأمثالها ليست مجرد انحراف تقني لشركة معينة، بل هي عالم جديد يتشكّل من حولنا،  جوهره اختلال معرفي في تصورنا للسلطة، والأخلاق، والمستقبل.

 حين تُدمج الرأسمالية الرقمية مع البيروقراطية الأمنية، يصبح القتل مسألة كفاءة، وتتحول الحرب إلى تجربة مختبرية في الرياضيات والحاسبات، تتغذى على البيانات بدلًا من الحوار، وعلى الاستهداف بدلًا من الفهم. لم تعد المجازر بحاجة إلى جنرالات غاضبين، بل إلى محللين هادئين خلف الشاشات، يديرون الجريمة بنعومة برمجية.

     إن أخطر ما في الذكاء الاصطناعي ليس تقنيته، بل (العقلية) التي ترافقه: عقلية اختزالية تُعيد الإنسان إلى سلسلة من الشفرات، تُبرر المسح الشامل تحت عنوان (الكفاءة الأمنية)، وتمنح الآلة شرعية أخلاقية لإصدار الأحكام.

  هذا التواطؤ الصامت بين التقنية والقوة يكشف عن أزمة حضارية، حيث يُستبدل الضمير بالخوارزمية، ويُصمم القتل كنظام تشغيل.

 ولذلك، يجب ألا يكون السؤال: كيف نتحكم في الذكاء الاصطناعي؟، بل: كيف نحمي إنسانيتنا من التفسخ داخل منطقه؟ هل لا نزال قادرين على إنتاج معرفة تُعلي من شأن الكرامة، في وجه برمجياتٍ تُقدّم الكفاءة على الرحمة؟ من لا يرى أن التقنية مشبعة بالقيم، يعيش وهم الحياد وهو يسير نحو الهاوية.

 كما تقول شير توركل: (من لم يعلم يقينًا أن التقنية ليست محايدة، فقد خبّأ روحه في مصانع البيانات المشبوهة).

 في نهاية المطاف، لا يُقاس تطور المجتمعات بذكائها الاصطناعي، بل بمدى قدرتها على صيانة الإنسان من التحوّل إلى رقم فائض عن الحاجة.

Author: nasser