نحو صياغة حدود واضحة
بين الفكرين القومي والإسلام السياسي
(ج2)
حسن خليل غريب
في مسالة البحث في الفكرين القومي والاسلام السياسي، يبرز السؤال التالي : هل يُوجد في فكر واستراتيجيات الإسلام السياسي كل الأهداف والوسائل التي نسعى لتحقيقها في المرحلة المعاصرة التي تمر بها الأمة العربية ؟
في هذا الصدد نورد الملاحظات التالية:
الدعوة عند ظهورالاسلام في المجتمع العربي
كانت الدعوة الإسلامية عند ظهور الاسلام في المجتمع العربي، مثالاً تاريخياً معنوياً وروحياً ونفسياً وتعبوياً حرَّض العرب على طريق التحرر والتغيير الاجتماعي والسياسي. فأتى الإسلام، في عصره، فشكل ثورة ثقافية وسياسية عملت على تغيير ثقافة العرب وتطويرها وتجديدها وإغنائها، على الصعيدين الروحي والسياسي والاجتماعي. فعلينا أن نقرأ من جديد ثورة الإسلام في العصر العربي الراهن، لنكتشف من خلال تلك القراءة عناصر مهمة . يقول القائد المؤسس عنا: ” حقائق أساسية في روح شعبنا ونفسيته، أضاءت لنا طريق العمل الثوري”( 14).
والعمل الثوري هو طريق بذل الجهد، وتقديم التضحيات للقيام بعملية التغيير الثقافي، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وهذا ما قامت به الدعوة الإسلامية بقيادة الرسول العربي. ونحن اليوم بحاجة إلى استلهام روح تلك الثورة التي قادها الرسول محمد، والثورة هي الإصرار على تحقيق النصر لمشروع الثورة الفكري والسياسي، والاستفادة من كل وسائل العمل وبذل الجهد المطلوب لتحقيقه.
- قراءة الإسلام من منظور قومي عربي جديد:
أما قراءة الإسلام من منظور قومي عربي جديد، فتستند إلى ما يلي:
أ- تعارضها مع قراءة السلفية الدينية المُسَيَّسة. يقول القائد المؤسس ” وليست تلك الصحائف الصفراء التي يحميها المؤرخون الشيوخ، بل هو وجود من يضارع أولئك الأبطال في البطولة ويتابع سيرتهم. (15)
ب- والمنظور القومي ينص على انها ” تستوعب التراث القديم المتنوع وتتفاعل مع الحضارة الإنسانية” (16). والتفاعل الحضاري مع الإنسانية، أي بمعنى “عدم الوقوف عند الماضي لتقليده، الذي يَعدُّه البعث نقطة انطلاق يبدأ فيها حياة جديدة ، يملؤها بكل المثل الإنسانية التي توحي بها أو تدفع إليها تجربتنا المعاصرة “( 17). والتفاعل الحضاري يعني الأخذ والعطاء بين الحضارات الإنسانية. ويعني الأخذ والاستفادة من تجارب الحضارات الأخرى. والعطاء هو الإشعاع عليها من تجارب حضارية غير حضارتها، على أساس ما يتناسب مع خصوصياتها ويفيدها في إغناء حضارتها.
ج- إن مقياس قراءة التراث هو إغناء الحاضر بتجارب الماضي وليس باقتباسه من دون تجديد يتناسب مع روح العصر. وإن ” العبرة كل العبرة، في حاضر الشعب لا في ماضيه، لأن الحاضر إذا كان قوياً يسهل عليه الانتفاع بقوة الماضي”( 18). والانتفاع بقوة الماضي هو الاستفادة من دروسه لا من خلال تقليده ونقله بشكل جامد معزول كلياً عن العالم المعاصر الذي تعيش فيه الامة.
3- الموقع الحقيقي للإسلام في حياة الأمة العربية :
أما الموقع الحقيقي للإسلام في حياة الأمة العربية فله تأثيراته الثقافية العميقة في المجتمع العربي، فالإسلام هو ” حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب، واصطبغت بعبقريتهم، وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى، له مكانته الخاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها” (19).
4- الاسلام ليس عقيدة جامدة :
في المنظور القومي، الاسلام وإن كان يشكل معيناً ثقافياً مهماً للأمة العربية إلاَّ أنه ليس عقيدة جامدة سلفية معزولة عن حاضرها، يتم تردادها وحفظ أصولها، بل هو تراث له جوانبه المضيئة في زوايا التاريخ العربي، لا يمكن الاستفادة منها، إلاَّ بتمثل تجربته الثورية النضالية( 20). وكدليل على أهمية الفصل بين ما هو متناسب مع روح العصر ومع ما هو من التراث الماضي، يقول القائد المؤسس: ” إني تحررت من العقيدة بمعناها الغيبي، ولكني آمنت بمحمد العربي كرجل عظيم له تجربة تاريخية وأخلاقية عظيمة لا يمكن أن يفهمها إلاَّ الثوريون” (21).
ثالثـاً: محاولة للمقارنة بين بعض جوانب الفكرين الإسلام السياسي والقومي
في العلاقـة بين العروبـة والإسـلام
من المبادئ المحكمة، التي لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير، ولا تستدعي بالتالي خلافاً بين شتى البعثيين، ما نصَّ عليه دستور الحزب وأدبياته فيما يلي:
- ” الرابطة القومية، هي الرابطة الوحيدة القائمة في الدولة العربية، التي تكفل الانسجام الكلي بين جميع المواطنين، وانصهارهم في بوتقة واحدة” (22).
- إذا كان البعث قد أدخل الدين إلى الحياة القومية، إلاَّ أنه لم يجعل من مهمته مهمة دينية(23 ). وهو اي البعث يكافح ” سائر العصبيات المذهبية والطائفية والقبلية والعرقية والإقليمية” (24).
- ان الإسلام، “بشكل خاص، مقوماً أساسياً من مقومات القومية العربية، لكن هذا لا يعني إيمانها في إنشاء الدولة الدينية، لأن العرب لا يريدون أن تكون قوميتهم دينية، لأن للدين مجالاً آخر”. (25)
- وإذا سألنا دعاة الاسلام السياسي: بأي فقه او المذاهب الإسلامية ستحكمون حين قيام دولة إسلامية؟ ” وإذا اخترنا فقهاً او مذهباً إسلامياً نحكم على أساس قواعده الفقهية، فسوف نجعل المسلمين ينقسمون عند خط البداية، لأن فقه المذاهب الإسلامية غير موحَّد (26).
بعد استعراض كل تلك الجوانب حول تحديد بعض المبادئ الأساسية في حزب البعث العربي الاشتراكي حول الموقف من الدولة الدينية وفق فكر الاسلام السياسي، كان لا بُدَّ من أن نستنتج أن هناك، بالفعل وليس بالاجتهاد، أسباباً تحول دون أن يكون الإسلام السياسي نظاماً انموذجياً نحكم ونوحد الدولة القومية به. ان ذلك يقودنا إلى القول بأن هناك حدوداً بين العروبة وفكر الإسلام السياسي، (27).
ومن ظواهر المسألة أن هناك مفكرين، بين قومي وإسلامي، متفقان حول عبارة واحدة. لكن هل هما متفقان حول تفسيرها أو تأويلها؟
فقد سُئِل مثلاً السيد محمد حسين فضل الله، المفكر الإسلامي المعروف: كيف ترى العلاقة بين العروبة والإسلام؟
فكان جوابه هو نص العبارة التي أطلقها القائد ميشيل عفلق، مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي: “العروبة جسد روحها الإسلام”.
فما هو الفرق في تفسير العبارة اعلاه ؟
أ- التفسير الديني للإسلام السياسي: يقوم التفسير الديني للاسلام السياسي للعلاقة بين العروبة والإسلام على قاعدة أن الرابطة الإسلامية هي الرابطة الوحيدة بين أبناء الأمة الإسلامية. فالإسلام عند الاسلام السياسي هو الثابت، أما العروبة فهي المتغير والهامشي الذي لا يكاد ان يحسب حسابه. وإن مجرد وضع الرابطة القومية في المقام الأول يعني، في الاعتقاد الإسلاموي السياسي، محاربة للإسلام، وهذا يجرّ تلقائياً الى تبعات لا يمكن تفاديها كالتكفير وغيره.
ب- التفسـير البعثي:
- يؤمن الفكر البعثي بأن “الرابطة القومية، هي الرابطة الاساسية الوحيدة الجامعة القائمة في الدولة العربية، التي تكفل الانسجام بين كل المواطنين في الامة، وانصهارهم في بوتقة واحدة” (28 ).
- ويؤمن، أيضاً، بأن الدين الإسلامي، بشكل خاص، يشكِّل مقوماً أساسياً من مقومات القومية العربية، لكن هذا لا يعني إيمانه في إنشاء الدولة الدينية بل الدولة المدنية، لأن العرب لا يريدون أن تكون قوميتهم دينية، لأن للدين مجالاً آخر . (29)
فالقومية العربية، في التفسير البعثي، هي ثابت، أما الإسلام فهو أحد مقوماتها الأساسية. والنظام السياسي الذي يعمل حزب البعث العربي الاشتراكي من أجله هو نظام حكم قومي مدني، ذلك لان الحزب يعتقد، بأن النظام السياسي الديني بموجب فكر الاسلام السياسي، بالاضافة الى اشكالية التفاعل مع روح العصر، لا يشكل جامعاً موحِداً لكل ابناء الأمة.