إشاعَة التَفاهَة في مفاصِلِ حَياة الأمّة

إشاعَة التَفاهَة في مفاصِلِ حَياة الأمّة
د. وحيد عبد الرحمن
باب الدراسات والبحوث المُستقبلية
تشكل الثقافة في الفكر القومي اهمية خاصة لاستيعاب المفاهيم والنظريات في إطار السعي الى ترسيخ مفهوم الوحدة العربية وصولاً الى افضل السبل على طريق تحقيقها وكذلك في اطار متابعة التطور التاريخي للنظرية الاقتصادية الاشتراكية وللنظرية السياسية الديمقراطية في محاولة لفهم وتحديد تقسيم العمل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وصولا الى ترسيخ مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية. وتؤكد التحولات التاريخية التي يمر بها عالم اليوم عموماً والوطن العربي خصوصاً على أهمية استشراف المستقبل بوضوح دون انقطاع عن ماضي الامة العربية وتراثها المجيد، وبما يضمن اثراء فكر الحزب وبالتالي الفكر القومي ونظريته ويكفل مواجهة علمية ثورية ناجحة لقضايا النضال العربي.
نحتاج اليوم، في اطار الدراسات والبحوث المستقبلية، التعامل مع تطورات الواقع والنظريات السياسية والاقتصادية فيه ومتابعة التحولات السريعة والعميقة في الحياة العربية والعالم اجمع ، والعمل نحو برامج اقتصادية وسياسية واجتماعية وعلمية تتجاوز عوامل ضعف الدولة القطرية والنظام العربي والتي افضت الى عدم القدرة على مواجهة تحديات الصراع الاقليمية منها والعالمية، في ظل استهداف منقطع النظير وغير مسبوق للامة العربية ولاي مشروع نهضوي فيها، مما ادى الى اتساع ظواهر شتى منها الانهيارات الامنية و شيوع العنف والتهجير والتغيير الديموغرافي وتفشي مشكلات الفقر والبطالة والتخلف والأمية واستباحة الموارد وهدرها. ولان مواجهة كل ذلك و تحقيق النهوض المنشود يتطلب التعرف على الاتجاهات المستقبلية وتطوير الفكر السياسي في الوطن العربي، وصياغة رؤى سياسية تستجيب وتتفاعل مع التطورات العالمية المعاصرة انطلاقا من التحليلات العلمية للفكر العربي القومي خلال القرنين الماضيين، وصولا الى تعزيز القدرات، و بناء دولة المؤسسات والفصل بين السلطات وضمان الحقوق والكرامة والعدالة وتحقيق الازدهار والرفاه مما يعزز نضالنا القومي في مواجهة تحديات العصر والقوى المعادية بمختلف صنوفها ويمكِّن الامة العربية في مسيرتها النهضوية الحضارية بما يليق بمكامن قوتها وتاريخها المجيد ودورها الريادي في عالم الالفية الثالثة . دراسة اليوم تتناول واحدا من اهم الاستراتيجيات المعادية الراهنة والمستقبلية.
إشاعَة التَفاهَة في مفاصِلِ حَياة الأمّة
من أهم الاستراتيجيات المعادية الموجَّهة إلى الأجيال الصاعدة بهدف اضعافها وشلّ دورها في مواجهة التحديات وبناء المستقبل المنشود
د. وحيد عبد الرحمن
المقدمة:
يشهد العصر الراهن تسارعاً في عناصر التطور التكنولوجي، فشهد ثورة للمعلومات، وثورة تكنولوجية، وتطورت وسائل الإتصال، فظهرت الشبكة العنكبوتية عبر أجهزة الحاسوب الصغيرة والهاتف الذكي، وازدحم الفضاء بالأقمار الصناعية والبث الفضائي، فجاءت العولمة الثقافية لتخترق بيوتنا دون استئذان من خلال هذه الوسائل، ولتُسهم في عرقلةِ منظومة اجتماعية مهمة كالترابط الأسري، والتنشئة الإجتماعية، والإنتماء الوطني، حاملة معها منظومة من القيم والتقاليد الغربية في اغلبها ، والغريبة على تقاليدنا وقيمنا الإجتماعية العربية والدينية الأصيلة. فكان لها وللأسف الشديد تأثيراً انعكاسياً خطيراً في تبديل هذه القيم والتقاليد لدى العديد من الأطفال والشباب الذين راحوا يعتقدون أن تمسكهم بالقيم والممارسات الغربية تعزز من شخصيتِهم أمام المجتمع.
ومن ناحية أخرى فان الواقع العربي يشهد حالياً موجة عدائية ممنهجة وخطيرة في عملية التجهيل من خلال العديد من الوسائل التي يراد بها إشاعة الأمية والتخلف بين صفوف الشباب، بل أن الأنكى من ذلك تمثل في تبوء مواقع مهمة من مفاصل الدولة من قبل التافهين الذين لا يمتلكون من التجربة والمعرفة والحكمة والتوازن والصدق والأمانة شيئاً ليتحكموا بتلك المفاصل. وقد أشار الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم الى هذا الواقع في زماننا هذا. حيث قال: سيأتي الى الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيه الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة.
الإطار العام:
مشكلة الدراسة
تكمن مشكلة الدراسة في أن المجتمع العربي يعاني اليوم من انتشار ظاهرة التفاهة في العديد من مناحي الحياة، فضلا على الاختراقات الواسعة والخلل الكبير في منظومة القيم والأخلاق والتقاليد الاجتماعية، بسبب التأثيرات السلبية للعولمة الثقافية، أو ما تسمى بالغزو الثقافي على كل من التنشئة الأسرية والاجتماعية ومنظومة التعليم والتربية والانتماء الوطني، وما يرافق ذلك من صعوبة في اتخاذ الإجراءات الوقائية والاحترازية والدفاعية لمجابهة هذه الظاهرة الخطيرة.
أهمية الدراسة
تعتبر ظاهرة التفاهة واحدة من المآسي الاجتماعية الخطيرة، بعد امراض المجتمع المتمثلة بالفقر والجهل، بل انها نتاج لهذه الأمراض، وتكمن الخطورة بشكل أوسع عندما يقلب الهرم الاجتماعي فتكون قاعدته الواسعة من المثقفين وممن يحملون الضمير الحي والخلق الرفيع والمبادئ القويمة والمثل العليا والتقاليد الأصيلة والتعليم والمعرفة، بينما يشغل القمة ذلكم التافهون الذين يعمي بصيرتهم المال السحت الذي حصلوا عليه بالنصب او الاحتيال او السرقة أو الاتجار بالمخدرات وغيرها، أو ذلكم الجهلة الذين يتمسكون بالقشور التي فرضتها عليهم العولمة الثقافية او التنشئة الاسرية البالية، فلا يفقهون من الحياة الكريمة الا توافهها.. ومن هنا تأتي أهمية هذه الدراسة الذي قد تسهم بنتائجها التعريف بأهم سبل الحد من مظاهر التفاهة.
هدف الدراسة
تهدف الدراسة إلى التعرف على ظاهرة التفاهة ومخاطرها وانعكاساتها السلبية على واقع المجتمع العربي، وسبل مجابهتها.
مصطلحات الدراسة
التفاهة
ورد في لسان العرب لابن منظور: تفه الشيء: يتفه تفها، وتفوها وتفاهة: قلُ وخسُ، فهو تافه. ورجل تافه العقل: أي قليله، والتافه هو الحقير وقيل الخسيس. (ابن منظور، مجلد 2، ص194)، وجاء في معجم اللغة العربية المعاصر: الانسان التافه: ضعيف الشخصية، والأسلوب التافه: الركيك لا قيمة له (عمر، ص312). أما في المعجم المغني: رجل تافه: غير متزن (أبو العزم، ص 143)
أما التعريف الإجرائي الذي سنعتمده في هذه الدراسة فهو (السلوك الإنساني غير السوي للأشخاص الذين يعانون من نقص حاد في منظومة التربية الأخلاقية والقيم والتقاليد الاجتماعية العربية الإسلامية).
العولمة الثقافية
يتصل مصطلح العولمة من الناحية اللغوية بفعل (عولم) على صفة (فوعل)، وتعود لفظة عَولَمة في أصلها إلى الكلمة الإنجليزية (Global) والتي تعني عالمي أو دولي. ويرتبط أحيانا كثيرة بالقرية، ويصبح معنى المصطلح القرية العالمية، أي أن العالم عبارة عن قرية عالمية واحدة. (الوالي، ص13) وهناك العديد من التعاريف التي تناولت العولمة بشكل عام والعولمة الثقافية باعتبارها أحد أوجهها، فهناك من يرى أن العولمة تعني: تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله (ولد السالك، ص407) بينما يعرفها آخر بأنها: عملية إكساب الشيء طابع العالمية، وجعل نظامه وتطبيقه عالميا (محمد، ص8).
وتعرف العولمة الثقافية بأنها: عملية اجتماعية يتم من خلالها تقليص القيود التي تفرضها الجغرافية على الأنظمة الثقافية والإجتماعية (حطاب، ص93). أما التعريف الإجرائي للعولمة الثقافية الذي سنعتمده في هذه الدراسة فهو (عملية الغزو الثقافي والفكري التي ينتهجها العالم الغربي لتصدير القيم والمثل والتقاليد المعتمدة لديهم إلى عالمنا العربي عن طريق وسائل التكنولوجية المتطورة من اجل اختراق منظومة القيم والتقاليد السائدة عندنا بصيغة الأمر الواقع المفروض والمرفوض).
التنشئة الاجتماعية
نشأ بمعنى (ابتدأ)، ونشأ في بني فلان بمعنى شب فيهم. (الرازي، ص659) والتنشئة من (نشأ ونشوء ونشأة)، ونشأة الطفل بمعنى شب واقترب من الإدراك (معلوف، ص807). وعرفت ايضا بأنها تعلم الأبناء لآداب الحديث والسلوك وفق نظام الأسرة الثقافي ومعاييرها واتجاهاتها (دبانة، ص53).
وتعتبر التنشئة الأسرية خط الشروع للتنشئة الاجتماعية، فهي عملية تفاعل وتأثير مستمرة من قبل الوالدين لتحقيق النمو الفكري والتعلم الثقافي واكتساب الطفل لأنماط وسلوكيات ومعايير واتجاهات اجتماعية محددة تمكنه من مسايرة الآخرين وتحقق له التوافق الإجتماعي والإستقرار والنجاح والإندماج في الحياة الاجتماعية وفق ثقافة المجتمع الذي يعيش فيه. أما التعريف الإجرائي للتنشئة الاجتماعية الذي سنعتمده لأغراض الدراسة فينطوي على إنها (العملية التي عن طريقها يكتسب الطفل السلوك والعادات والعقائد والمعايير والدوافع الاجتماعية والدراسية).
الإطار النظري
دور العولمة الثقافية في إشاعة التفاهة
تستهدف العولمة الثقافية في بعض مفاصلها الترويج لفلسفة النظام الغربي الرأسمالي، وفرض الثقافة الغربية الوافدة، وجعلها في محل الصدارة والهيمنة في العالم وقهر الهوية الثقافية للأمم والشعوب، ولعل أخطر تأثيراتها يكمن في أنها تخترق البنية الثقافية المحلية، بما يستهدف محو الهوية الحضارية الثقافية للأمة، ونزع الخصوصية الشخصية للشعوب (الجميل، ص97). وبالطبع فان تركيزها بشكل أساسي يكون على شخصية أطفال وشباب امة العرب، عبر الإعلام المهيمن والمبرمج، من خلال الشبكات الفضائية والعنكبوتية، لتدخل إلى بيوتاتنا عنوة، فتتدخل بحياتهم في محاولة لتبديل تقاليد الأسرة العربية إلى الثقافة المستوردة.، وهي ثقافة الانحلال والتفاهة في اغلبها. وقد فرضت العولمة الثقافية نفسها على الأسرة العربية فرضاً قسرياً ومباشراً. وان أخطر ما فيها أنها تنشر أفكاراً وسلوكيات من شانِها تحطيم الولاء للقيم التراثية والوطنية والدينية الأصيلة، وإحلال أفكار وولاءات جديدة محلها.
وفي هذا الإطار يبرز الصراع واضحاً بين إرادتين متناقضتين لا يمكن التوفيق بينهما، إرادة دفاعية تتمثل في الركائز التي شكلت مقومات المجتمع في عالمنا العربي، وبين قوة هجومية تمثلت في العولمة الثقافية التي تستهدف تهديم هذه الركائز وتهشيم الهوية الإنتمائية وتحطيم كل أواصر الإرتباط القائمة في المجتمع. هذه القوة الهجومية المعتدية ما زالت تسعى وتطور وسائلها وأساليبها من اجل قهر الثقافة العربية ومرجعياتها الاساسية، وإحلال مناهج ثقافتها بدل عنها. وبسبب ارتباطها بتعاظم ثورتي الاتصالات والمعلومات، فقد أصبح نفوذها مُختَرِقاً لكل الحواجز.
وترتكز أدوات العولمة الثقافية على تلك المؤثرة في العقل والنفس والفكر والعقيدة، ومن ابرز ادواتها خلق رموز مجتمعية جديدة لتمثُّل الشباب بها، وحصر هذه النجومية المبالغ بها ببعض الممثلات والممثلين ولاعبي الكرة في الغرب، في حين يتم الاهمال المتعمَّد لقادة الفكر والثقافة والعمل المجتمعي الحقيقي و البنّاء بكل جوانبه. ومن اهم الادوات ايضا القنوات الفضائية ببث الأفلام والمسلسلات، والانترنت من خلال المواقع الترفيهية والإباحية، والكتب والمجلات، ووسائل التبشير المختلفة. وأغلبها تستهدف إشاعة التفاهة بين صفوف الأطفال والشباب. فنرى مثلا قيام البعض بالتشبه بالنجوم الزائفين وقيمهم السطحية ، او بالنساء في ملبسه، وحلاقة وتصفيف شعره، أو التحدث بالإنكليزية بدلا من لغتنا العربية الجميلة، لغة القرآن الكريم، ويعتبر ذلك له فخرا له ومدعاة لشخصيةٍ واهمة. وبالطبع فانه من الصعوبة بمكان، إن لم نقل استحالة وقف هذا الاختراق والغزو الثقافي أو الهجوم ألقيمي بالطرق التكنولوجية المتاحة لدينا الآن نحن المدافعين، على العكس مما كنا نمتلكه في السابق من وسائل التشويش ضد البث الإذاعي الموجه. وهذا ما أعطى لطرف الصراع الغربي ميزة القوة والسيطرة والنفوذ والهيمنة على اجيالنا الصاعدة ومقدرات مجتمعنا العربي بكافة مفاصله.
أثر الفقر في إشاعة التفاهة
الفقر هو المنبع الأساسي للجهل، والجهل هو باب واسع لنشر التفاهة. وفي عالمنا العربي وبعد غياب مجانية والزامية التعليم، وبعد انتشار المدارس الخاصة بدلا من الحكومية، وبعد ارتفاع أسعار التسجيل فيها، وفرض تكاليف مضافة للكتب الدراسية وغيرها، وبعد ارتفاع أسعار كل مفاصل الحياة من سكن ومواصلات وأغذية، وغياب مجانية العلاج والرعاية الصحية، وارتفاع أسعار الأدوية، وبعد انخفاض أسعار العملات المحلية وارتفاع سعر الدولار عمدا في اغلب الاقطار العربية وغيرها من الأمور التي ضاقت على الناس معيشتهم، أصبح الجهل منتشرا بين صفوف قطاع واسع من الشباب الذي غاب عن المدرسة، وانطلق الى الشارع والمقهى وبعض الأعمال البسيطة ليفتش عن لقمة العيش له ولأهله منها. فأصبحت التفاهة مُتَنفَّس لهم وملازمة لسلوكهم العام، واصبح الافتقار الى ابسط حدود اللياقة والتصرف الاخلاقية ، و التعامل غير السوي، سواء في التحدث بالكلمات النابية، أو الملبس الغريب، أو اللجوء الى التغني بالأغاني الهابطة هي السائدة بينهم. وبالطبع فإن ما زاد الطين بلة هو عدم مقدرة الأسرة الفقيرة من تحقيق ابسط متطلبات التربية السوية للأطفال. فهذه الأسرة مشغولة بشظف العيش، ناهيك عن مستوى الجهل الذي يسود الأبوين أو أحدهما. وبذلك يمكن القول ان لا وجود لعناصر التربية المنشودة للأطفال والشباب الذين يعانون من الفقر، لا في الأسرة ولا في المدرسة ولا في المسجد، ولا في غيرها.
دور رجال الدين في إشاعة التفاهة
نقصد هنا بعض رجال الدين وليس علماء الدين، فقد انتشرت وللأسف الشديد هذه الفئة المُسيئة في المجتمع، واعتلت المنابر والقنوات الفضائية، بل تم تخصيص عدد كبير من هذه القنوات لهم ليشيعوا الخزعبلات والخرافات والفتاوي الهابطة بين صفوف البسطاء والجهلة من الأطفال والشباب الذين انساقوا لهم دون أدني وعي او رادع، فانتشرت التفاهة المُعَبَّر عنها بالسلوكيات المنحرفة، باخطر صورها. علما أن هذا الأمر ينطوي على مخطط مبرمج وخطير للسيطرة على عقول الشباب الذين يفترض ان يكونوا ضماناً للمستقبل العربي الواعد الذي تسعى كل القوى الثورية والوطنية والقومية العربية لتفعيل دورهم. يقابل ذلك غياب دور علماء الدين الأجلاء في مجابهة هذا الخطر الداهم، أو لنقل محدودية تأثيرهم، فهم غير مسندين من السلطات الحكومية، خوفا مما قد يفرض عليهم الاتهام بمساندة الإرهاب وغيرها من الاتهامات الزائفة التي حاول الغرب لصقها بالإسلام الحنيف زوراً وبهتاناً، فهو دين التسامح واليسر.
سُبُل مُجابَهة التَفاهة
دور المدرسة في مجابهة سلبيات العولمة
بعيدا عن مجتمع الجهلة، وفي أقل تقدير وبغية الحفاظ على سلوكية الطلبة الذين ينضوون في صفوف الدراسة، وفي ضوء التحدي الإعلامي والغزو الثقافي الذي نشهده اليوم، لابد من الوقوف بجد أمام التأثيرات الانعكاسية السلبية على ثقافة وسلوك الطلبة الذين يقضي الكثير منهم اغلب أوقاتهم ليستقوا من الفضائيات التلفازية والشبكة العنكبوتية ما هو موجَّه لهم في تنمية السلوك المنافي للقيم والثقافة العربية والأعراف الاجتماعية. وهنا تبرز المسؤولية الكبيرة للمدرسة في هذه المجابهة. فالمدرسة هي الركيزة الأساسية في دعم الشخصية التي كونتها الأسرة ودفعت بها إلى ميدان التعليم، فهي المؤسسة التربوية الأولى التي تتعمق فيها الجوانب التربوية والأخلاقية والدينية للطالب فضلا على التعليم. وهي مركز إشعاع المجتمع بأسره، الذي تُصقَل فيه شخصية الطفل وتعمق في نفسه مبدأ الانتماء الوطني، التي ينشدها المجتمع.
وتعتبر المدرسة بمثابة الحصن الحصين للطفل التلميذ والطالب، تجاه كافة التحديات والمخاطر التي تفرزها العولمة الثقافية. وبالطبع فان ذلك يتحقق فقط عندما يتم انتقاء وتأهيل إدارتها بشكل متقن وفق معايير محددة مدروسة، ليتمكن المدراء من رسم رسالة المدرسة، وأهدافها بالتخطيط السليم القادر على المجابهة السليمة لتحديات العولمة الثقافية. فعدم التسلح بقيم المجتمع وتقاليده الأصيلة ومثله العليا في عصر العولمة من قبل الإدارات المدرسية، وعدم إعطاء التربية الوطنية والاجتماعية والدينية السليمة، الحجم والوقت والأسلوب الكافي لغرسها وتأجيجها في نفوس الطلبة، فان ذلك يزيد من مخاطر وتحديات واختراقات العولمة الثقافية، فيسهم في تفشي السلوكيات والمظاهر الاجتماعية والأخلاقية التي يسعى الغرب لتسويقها. وبالتالي فان ذلك يفضي إلى تهاوي المجتمع بمرور التقادم الزمني. ولذا فقد أصبح من الضرورة بمكان ان تحظى الإدارة المدرسية بسلطة واسعة من قبل الحكومات لتحقيق هذه المجابهة الفاعلة، كما ينبغي إعادة النظر بمعلمي ومدرسي التربية الوطنية والدينية والاجتماعية، وادخالهم دورات متخصصة لغرس القيم الاجتماعية الاصيلة والانتماء الوطني الواعي في نفوس الطلبة، مع منحهم امتيازات خاصة تفوق امتيازات المعلمين والمدرسين الآخرين. ناهيك عن ضرورة إعادة النظر بالمناهج الدراسية الخاصة بهذا الجانب. علما ان واقع الحال يؤكد عدم الاكتراث بهذه الشريحة المهمة في عموم الواقع المدرسي العربي.
مهام الأسرة في التنشئة الإجتماعية
بعيدا عن الاسر الفقيرة او منعدمة التعليم والتي قد لا تشكل نسبة مئوية عالية في بعض الأقطار العربية، لا بد من الاهتمام بالأسرة واعطائها الحيز الكبير من البرامج التثقيفية والإعلامية المنظمة لتفعيل دورها في غرس التقاليد والقيم الاجتماعية الاصيلة لضمان عدم وقوع الأطفال في منزلق التفاهة وتبعاته الخطيرة على الاسرة والمجتمع. فالأسرة هي المجتمع الإنساني الأول الذي يعيش فيه الطفل، والذي تنفرد في تشكيل شخصيته لأهم سنوات حياته، والتي تعتبر حاسمة في بناء شخصيته. (زهران، ص213) وهي خط البداية لتعلم الطفل، فيكتسب من خلالها منظومة القيم والاخلاق والسلوك العام الذي سيرافقه طيلة حياته. وبذلك فان الأسرة تعتبر المدرسة الاولى للتربية والتعليم قبل انتقال الطفل الى المدرسة التي ستسهم فيما بعد في التنشئة الاجتماعية كمؤسسة مهمة اخرى في هذا الشأن. وعموما فان تربية الأطفال تربية جيدة ترتكز على غرس مفاهيم حب الوطن والانتماء والمبادئ والقيم والأخلاقيات التي تسهل على الطفل كيفية التعايش مع غيره، والتأكيد على أهمية التمسك بالقيم العربية والتعريف بتراثنا العربي والاسلامي والايماني الغني والغزير. وكلها عوامل أساسية في بناء شخصيته. كما إن الأسرة تمثل حلقة الوصل بين الفرد والمجتمع، فتقوم بنقل القيم والتقاليد السائدة في المجتمع إليه. (حسين، ص170)
التوصيات
بعد هذا العرض الموجز في تشخيص ظاهرة التفاهة في المجتمع العربي ومخاطرها المستقبلية وأسبابها وسبل مجابهتها توصي الدراسة بما يأتي:
• لابد للقوى السياسية والجماهيرية العربية ان تضغط على الحكومات بإقرار وتطبيق مبدأ الزامية ومجانية التعليم للقضاء على الجهل والامية والتي تفضي الى ظهور ظاهرة التفاهة وتمهد لمخاطرها على اي مشروع للنهضة والتنمية في الوطن العربي.
• قيام وزارات التربية باعادة النظر بالمناهج الدراسية باتجاه ترصين الجوانب التربوية وتعميق الثقافة العربية وتراث الامة الثري الزاخر وتقديمه باساليب عصرية جاذبة للطلبة.
• تفعيل دور الإدارات المدرسية ومنحها صلاحيات واسعة في متابعة سلوكيات الطلبة وتحجيم تأثيرات العولمة الثقافية عليهم.
• قيام وزارات التربية ببرامج تعمل على تفعيل دور وتأهيل معلمي ومدرسي مواد التربية الوطنية والدينية والاجتماعية لتمكينهم من غرس قيم الاخلاق والتقاليد السامية في نفوس الطلبة باعتبارهم شريحة الشباب الأكثر عددا في المجتمع والتي يعول عليها مستقبل الامة.
• اعداد وتنظيم حملات وبرامج ثقافية وإعلامية مركزة لتفعيل دور الاسرة وتمكينها في هذا المجال.
• تفعيل دور علماء الدين ومنحهم الامتيازات الكافية لنشر الخطاب الديني العلمي الواعي والمسؤول الذي ينطوي على الوسطية والاعتدال، ووضع البرامج التلفازية المكثفة لتحييد الدور المشبوه لما يسمى برجال الدين الذين يبثون سموم الخرافات والخزعبلات بين افراد المجتمع.
• العمل على تفعيل مكافحة جادة للمواقع الإباحية والتافهة من الشبكة العنكبوتية اما بحجبها او تشويشها او اية وسيلة متاحة لشلِّها عن فعلها الهدّام.
• العمل قدر المستطاع على مراقبة ومنع انتاج وعرض المسلسلات والأفلام المبتذلة والاغاني الهابطة التي تنطوي على التفاهة وتكرِّسها بين الشباب.
• قيام المنظمات الجماهيرية والنقابات المعنية والاتحادات العربية ذات العلاقة بالتربية والتاريخ والثقافة والفنون بتحمُّل مسؤولياتها التاريخية للحد من هذه الهجمة الشرسة التي تستهدف اجيالنا الصاعدة، وذلك بوضع البرامج اللازمة و توعية المجتمع والضغط على الوزارات والادارات المعنية لمعالجة هذه الظواهر الخطيرة، والعمل بجدية نحو بناء اجيال عربية سليمة وعميقة وواعية لمسؤولياتها المستقبلية.
المراجع :
1. ابن ماجه، (ت: 273 هـ)، أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه الربعي القزويني، سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، (ب.ت).
2. ابن منظور، (ت: 711 هـ)، جمال الدين أبي الفضل محمد بن مكرم ابن علي، لسان العرب، حققه وعلق عليه ووضع حواشيه عامر أحمد حيدر، راجعه عبد المنعم خليل إبراهيم، المجلد الثاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002م
3. الجميل، سيار، العولمة والمستقبل، استراتيجية تفكير، الدار الاهلية للنشر والتوزيع، عمان، 2000م
4. حسين، محي الدين احمد، التنشئة الاسرية والابناء الصغار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1987م
5. حطاب، كمال توفيق، رؤية إسلامية نحو العولمة، مجلة إسلامية المعرفة، العدد 35، 2004م.
6. دبانه، ميشيل، ونبيل محفوظ، سيكولوجية الطفولة، دار المستقبل، عمان، 1984م.
7. الرازي، محمد بن أبي بكر عبد القادر، مختار الصحاح، دار ومكتبة الهلال، بيروت، (ب. ت).
8. زهران، حامد، علم النفس الاجتماعي، عالم الكتب، القاهرة، 1977م
9. عمر، احمد مختار، معجم اللغة العربية المعاصر، عالم الكتب، القاهرة، 2008 م
10. محمد، إسماعيل علي، العولمة الثقافية، دار الكلمة للنشر والتوزيع، 2001م.
11. معلوف، لويس، المنجد في اللغة والأعلام، دار المشرق، ط 39، بيروت, 2002م.
12. الوالي، عبد الجليل كاظم، جدلية العولمة بين الاختيار والرفض، مجلد العولمة وتداعياتها على الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط2، 2004م .
13. ولد السالك، ديدي، قراءة في خلفيات ومفاهيم العولمة، مجلة الجامعة الاسمرية، السنة الثانية، العدد3، ليبيا، 2004م
14. دونو، آلان، نظام التفاهة ، دار سؤال للنشر ، لبنان 2020.
Author: nasser