في ذكرى العدوان الأمريكي وغزو العراق
عدوان من أجل العدوان
غزو العراق عدوان على القوانين والأديان والإنسانية
الأستاذ الدكتور كاظم عبد الحسين عباس
حاولت البشرية بعد ما واجهته من كوارث الحرب العالمية الثانية أن تؤسس دولاَ وأنظمة وقوانين وشرائع تؤمن وتحمي السلام العالمي القائم على احترام سيادة الدول وعلى تقدير الحرية بمعانيها الإنسانية والسياسية وعلى الإيمان بحقوق الإنسان ورعاية المصالح المشتركة. وحاولت الشعوب وبعض المنظمات الدولية إيجاد ثوابت في علاقاتها تؤمن السلم المدني وتحمي حياة الإنسان وممتلكاته وتضمن له حق التعليم والعلاج والانتقال بما يضمن العيش الكريم.
وفي الوقت الذي تتهم فيه الولايات المتحدة الأمريكية دولاً أخرى بكونها “دولاً مارقة”، إلّا إنها هي الدولة الوحيدة الحائزة على أكبر سجلّ في الاخلال بمواثيق الدول والأمم المتحدة ومجلس الأمن، وممارسة الحروب خارج حدودها، وانتهاك سيادة دول عديدة، وسحق حريات شعوب بأكملها وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد فعلت ذلك دون أن تكون لديها أسباب موجِبة منطقية أو واقعية تتعلق بحماية مصالحها المشروعة كالأمن والاقتصاد والحرية، بل كل ما قامت به من غزوات وحروب يعبر عن نزعات عدوانية نابعة من غطرسة القوة، وعن تراجع كبير عن كل ما أنجزته البشرية من تقدم حضاري في مجال تقنين وتنظيم النزاعات، وحماية حقوق الإنسان والحريات، وتراجع عن القوانين والتشريعات الدولية والعمل المؤسسي لضمان السلم والتعاون الدوليين. فكان أن ضربت كل ذلك عرض الحائط بروح لا تؤمن إلا بغطرسة القوة العسكرية، يدفعها جشع وأطماع تتأصل فيها دوافع هي الأقرب إلى قوانين الغاب.
لذا يمثل غزو العراق واحتلاله سنة ٢٠٠٣م ذروة من ذروات التراجع الإنساني الهائل لما ساده من التوحش والهمجية والاستهتار بالقوانين والثوابت بين الدول والشعوب، ذلك لأنه عدوان لا يستند على شيء بل كان عدوانٌ من أجل العدوان ولا شيء غير العدوان.
ولعل من بين الأخطاء الشائعة التي نسمعها تتكرر منذ عشرين سنة هو القول بأن أميركا قد غزت العراق لتحقيق مصالحها. ذلك لأن العراق في ذلك الوقت لم يهدد مصالح أميركا ولا غيرها بأية صيغة من صيغ التهديد، كما أن العراق لم يهدد السلم والأمن الدوليين ولا يمتلك قدرات فعلية لهكذا تهديد بعد مرور 13 سنة على أبشع حصار سياسي واقتصادي فُرِض عليه وعلى شعبه الأبيّ.
لكن النظام الوطني العراقي الذي استهدفته الروح العدوانية الأمريكية بالغزو العسكري وحاربته قبل الغزو وفرضت عليه حصاراً جائراً لم يحصل له مثيل في كل تاريخ العالم، طبَّق الاستقلال الاقتصادي الناجز في السيطرة الوطنية التامة على النفط وعلى باقي الثروات الوطنية.
كما أن النظام العراقي سعى بكل جدية للوصول إلى علاقات إيجابية مع كافة الدول العربية بدون استثناء وكذلك الدول المجاورة، وحقق نجاحات كبيرة على طريق تسوية عادلة لآثار النزاعات السابقة مع بعضها، مضافاً إلى ذلك أن العراق سعى بجدية تامة لتحقيق سيادة العراق وحماية استقلاله وأمنه الوطني والمجتمعي.
إذن النظام الوطني العراقي سلك سياسات وطنية وقومية تخدم العراق وتخدم الأمة العربية. وصنع نموذجاً للدولة العربية المنجِزة والقادرة على مزيد من العطاء والبناء والنهضة في طريق تحقيق الاستقلال العربي سياسياً واقتصادياً وبالمقابل فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي بحثت عن مبررات ومسوغات وأغطية لغزو العراق واحتلاله وتدميره تدميراً ممنهجاً ومستمراً منذ سنة ٢٠٠٣م.
وفي الواقع فطيلة ما يزيد عن أربعين عاماً حاربت أميركا العراق بطريقة أو أخرى، أي منذ بداية سبعينيات القرن الماضي لأسباب لا علاقة لها بأمن ولا بمصالح الولايات الامريكية، ولا علاقة لها بأمن ومصالح باقي دول العالم بل لأن العراق:
أولاً: نهج سياسة قومية تفضي إلى تثبيت مصالح العرب في أرضهم وثرواتهم.
ثانياً: لأن العراق رسخ الوحدة الوطنية العراقية وقطع الطريق على التلاعب بها من قبل مخابرات أميركا والكيان الصهيوني وبريطانيا وغيرها من الدول التي تعاون الحلف الأمريكي راضية أو مرغمة.
ثالثاً: لأن العراق قد نفذ خطط تنمية عملاقة نقلته إلى ما وراء اشتراطات مزروعة في عقول أعداء العرب الذين يرون في تقدم الامة العربية خطراً يهدد مصالحهم، وهو ليس بخطر بل ممارسة حقوق ثابتة وبديهية.
إن انعدام الأسباب الموجبة للعدوان على العراق قد أثبت للشعب الأمريكي ولكل شعوب الأرض أن النظام الأميركي قد ألغى قرونا من التطور الإنساني في مجال تقنين الصراعات والقضاء على الظاهرة الاستعمارية وتنظيم العلاقات بين الدول، وعوضاً عن ذلك فإنه يتمثل روح الغاب ويستعيد شرائعه وإنه يعيد إلى الحياة نزعات تتمثَل وتُصَنِّع تحديثات جديدة لاستراتيجيات تأجيج الكراهية بين الأديان، وتوظف المناهج الطائفية البغيضة لتمزيق النسيج الاجتماعي في العراق وفي كل أقطار الوطن العربي.
لقد ثبت للقاصي وللداني أن الغزو والعدوان لم يحقق أي من الأهداف التي أعلنها للشعب العراقي، فلم يحقق الديمقراطية بل مارس تزوير الانتخابات وبث ديكتاتوريات الفساد المالي والإداري والاجتماعي والأخلاقي والتي تعمل كلها لمنع أي ممارسة ديمقراطية وتغتال أي صوت حرّ.
ولم يحقق الأمن، بل ثبَّتَ بؤر الإرهاب وأنتج المليشيات الطائفية والسلاح المنفلت لتعيث هذه الفوضى بأمن العراق ولتندفع منه إلى باقي الأقطار العربية وكل ذلك تحت أنظار ما تبقى من مؤسسات الدولة في العراق وبحمايتها.
وبدلاً من أن يجلب للعراق الرخاء الاقتصادي الذي وعد به، فإذا بالتدهور الاقتصادي يصيب العراقيين كما لم يصبهم به حتى في أحلك ظروف الحصار، وإذا بالبطالة والأمية تنتشر انتشاراً مخيفاً، وإذا بموارد العراق الكبرى تُنهب وتُسرق في وضوح الشمس.
وأخيراً فإن العدوان والاحتلال لم يصلح حال المنطقة بل صعَّد من لغة العداء والصراعات بين دولها وشعوبها، وهو بذلك يكون قد أسقَطَ بنفسه شعار شيطنة العراق وقيادته وإلى الأبد، بشهادة العراقيين وكل شعوب الأرض.