في ذكرى الاحتلال
لمَحَات مِن الصِراعِ المُسَلَّح
الدكتور وحيد عبد الرحمن
كانت الوضعية الدفاعية الاستراتيجية العراقية خلال ثمانينات القرن الماضي ترتكز الى الدفاع عن الحدود العراقية وعدم التفريط بأي شبر من ارض البلاد. ولكن وبعد الحصار الظالم، المطلق والمطبق على العراق تبدلت هذه الوضعية بموجب الواقع الجديد بعد فقدان سلاح الجو والتغطية الجوية للقوات البرية بصورة تكاد ان تكون مطلقة. فلا طائرات جديدة ولا قطع غيار للطائرات القديمة، والعمر الافتراضي لسلاح الجو ولطيران الجيش (سلاح الهيلوكوبترات) قد انتهى، وفي الوقت نفسه فإن الجيل القديم من الصواريخ المضادة للطائرات ضمن اسلحة الدفاع الجوي هو الذي كان معتمداً في التصدي للطائرات الامريكية البريطانية المتطورة، ولا توجد وسائل لمجابهة صواريخ كروز الموجهة والمتطورة سوى الوسائل البدائية البسيطة المتوفرة.
عقيدة الدفاع على حافاتِ المدُن
لقد فرض ذلك كله على القوات المسلحة العراقية ان تقوم بتغيير استراتيجي وجاد في عقيدتها العسكرية..
ففي ظل فرض هذا الواقع تم تبني عقيدة الدفاع على حافات المدن بدلاً من الدفاع على الحدود أو عنها.. وبذلك فقد تم التخلي عن أراضي عراقية واسعة تمثلت في الصحراء الغربية والجنوبية الغربية اضطراراً.
فالناظر إلى خريطة العراق يجد ان نهر الفرات من مدخلِه في الاراضي العراقية عند مدينة (القائم) على الحدود السورية وحتى مصبه في شط العرب عند (كرمة على) في القرنة يقّسم العراق الى منطقتين، فكل ما هو شرق النهر عبارة عن مدن سكنية ذات كثافة بشرية ومزارع ومصانع وغيرها، بينما كل ما هو غرب الفرات عبارة عن صحراء جرداء، قاحلة، واسعة، شاسعة، تمتد الى الحدود مع كل من سوريا، الاردن، المملكة العربية السعودية، والكويت.. وهي صحراء تخلو من كل مستلزمات الحياة ومن كل متطلبات الدفاع، فلا أستار ولا اشجار ولا انهار ولا مرتفعات تصلح أو تسمح بإقامة مناطق دفاعية. وهي مكشوفة امام الاقمار الاصطناعية وطائرات الاستطلاع، ولذلك فإن اي انتشار للقوات المسلحة فيها وفق ظروف الامكانات التقنية المحدودة يعتبر انتحاراً امام القوات الجوية والصاروخية والاستطلاعية المعادية التي تمتلك أعلى درجات التكنولوجيا.
ووفق هذا الواقع المفروض، والعدوان المرفوض، تبنت العقيدة العسكرية العراقية مبدأ الدفاع على حافات المدن كخط أول للقاء القوات المهاجمة المعتدية. وذلك ببساطة يعني ان مجرد التخلي عن الخط الأول تبدأ العمليات الحربية داخل المدن.
مرحلة الإستحضارات
بعد أن توضح الهدف المعادي باحتلال العراق، سعت القيادة السياسية العراقية اولاً لتجنب الحرب من خلال الوسائل والاساليب الدبلوماسية والسياسية فاعتمدت على الاستجابة لكل القرارات الدولية. وفتحت قنوات دولية متعددة لتوضيح الاهداف العدوانية للمخطط الصهيوني، كما فتحت كل ابواب العراق ومؤسساته العسكرية والاقتصادية والتصنيعية والتربوية، وحتى السيادية منها الى فرق التفتيش التي صالت وجالت ودققت وحققت في كل صغيرة وكبيرة، دون ان تجد شيئاً يمكن ان ترتكز إليه في تسويغ وتبرير احتلالها للعراق.
ولكن وبعد أن تيقنت القيادة العراقية بأن لا خيار لها إلا القتال تبنّت، ومنذ منتصف التسعينات، العقيدة العسكرية الجديدة المتمثلة بالدفاع على حافات المدن خاصة وأنها بدأت تلمس بشكل لا يقبل الشك بأن بعض الدول العربية المحيطة بالعراق فتحت ابوابها واجوائها للحشد الاستراتيجي العسكري وتدفق القوات الامريكية والبريطانية وحليفاتها الى اراضي العراق. ولذلك رسمت استراتيجية العراق العسكرية على اساس الحرب الشعبية الشاملة ويمكن في هذا الامر استذكار واستحضار بعض من الإجراءات المتخذة لتهيئة متطلبات خوض الصراع المسلح:
- فلماذا كانت القيادة السياسية العراقية بكل مفاصلها ومواقعها الوظيفية المختلفة وبكل مستوياتها القيادية ترتدي الزي العسكري منذ اواسط التسعينات وحتى العدوان الامريكي العسكري الغاشم لغزو العراق؟
- ولماذا كان الامر المركزي يؤكد على تدريب اعضاء القيادة العراقية كافة دون استثناء على السلاح وفنون القتال والرمي بغض النظر عن العمر والموقع القيادي ابتداءً من أعضاء القيادة ونائب رئيس الجمهورية نزولاً الى وزراء الدولة كافة؟
- ولماذا كانت التقاليد والمخاطبات والمكاتبات العسكرية هي السائدة، بل المعتمدة في إدارة شؤون الدولة والمجتمع؟
- ولماذا كان الطلبة من الجنسين يمنحون خمس علامات اضافية على معدلاتهم لكل من يجتاز بنجاح الدورة العسكرية التدريبية التي كانت تقام للجميع في العطل الصيفية والتي تشمل التدريب على السلاح وفنون القتال والرمي؟
- ولماذا تم تشكيل جيش القدس ليضم أكثر من سبعة ملايين عراقي، ولماذا شكلت تنظيمات شعبية خاصة مثل فدائيو صدام واشبال صدام) وغيرها؟
- ولماذا تم توزيع الاسلحة على عموم الشعب، فلا يخلو بيت واحد من بيوتات العراقيين دون قطعة سلاح او أكثر؟ بالرغم مما كانت تشيعه الحرب النفسية الأمريكية من أن القيادة العراقية كانت معزولة عن الشعب وتخشاه مما يستوجب من حيث المنطق، لو صحّت النظرية الامريكية، ان تمنع القيادة امتلاك السلاح من قبل ابناء الشعب!
إن الإجابة على التساؤلات بخصوص هذه الاجراءات والمظاهر وغيرها، تؤشر ببساطة الى تبني بعض من منظومات التأهيل الاحترازية والدفاعية والوقائية التي اعتمدتها القيادة الوطنية العراقية لمجابهة الخيار الامريكي في الغزو، كل ذلك كان يجري بالتوازي مع الاستمرار المكثف للجهد السياسي والدبلوماسي والاعلامي النشيط لتجنب العدوان، والايفاء بكافة التزامات العراق القانونية والدولية، سواء ازاء الامم المتحدة أو غيرها من المنظمات الدولية.
وقد نجح العراق في تحقيق استقطاب دولي رسمي وشعبي هائل لصالحه، فوقف العالم كله ضد التهديدات الامريكية بالحرب. ففي يوم واحد تظاهر الملايين من شعوب العالم في 60 عاصمة ومدينة رئيسية في عموم الكرة الارضية، بما فيها كبريات المدن الامريكية، ولندن وكافة العواصم الاوربية وغيرها الكثير. كما فشلت اميركا في انتزاع قرار من مجلس الامن الدولي يضفي الشرعية السياسية على الحرب. وكذلك طال فشلها تحقيق اي اسناد من الجمعية العمومية للأمم المتحدة او الاتحاد الاوربي او حلف شمال الاطلسي (الناتو). وقد وقفت دول عظمى ضد الحرب بما فيها فرنسا والمانيا ناهيك عن روسيا الاتحادية والصين.
إلا أن كل الفشل الامريكي في الحصول على اية شرعية دولية لتشكِّل الغطاء السياسي للحرب لم يردع أميركا، لذا فإن مشروع غزو العراق، الذي بانت بوادره منذ منتصف التسعينات، اضحى امراً محتوماً في منظور القيادة العراقية ولعله اصبح مؤكداً بعد أن أصدر الامريكان (قانون احتلال العراق)، والذي أسموه قانون “تحرير” العراق.
ورغم ذلك فان القيادة العراقية لم تترك خياراً واحداً الا واعتمدته لتجنب هذه المؤامرة الصهيونية الشرسة، دون الاخلال بما تتبناه من مبادئ وطنية وتلتزم به من مبادئ قومية كبرى، والتي حملتها بكل امانة سواء في مجال الحفاظ على الاستقلال الوطني ، او على مستوى تبني الدفاع عن القضايا المركزية للأمة العربية والتي يمثل محورها القضية الفلسطينية، فلا استجابة للضغوط في قبول المداهنات والمهادنات، ولا قبول لطروحات التطبيع والتطويع بل على العكس كان الرئيس الشهيد صدام حسين قد اعتاد على ترديد شعار (عاشت فلسطين حرة عربية أبية من البحر إلى النهر)، في نهاية كل خطاباته، كما تجسد هذا الشعار في الدعم المادي اللامحدود للشعب الفلسطيني بالرغم من الحصار الاقتصادي الشامل الذي كان يعيشه العراق.
وبمرور سني الحصار وما واجهه العراقيون من الظلم والقسوة وما عانوه من المرارة والالم والشدة والضغط المتواصل التي مارستها امريكا وبريطانيا ضدهم يومياً، توضح للقيادة العراقية بان لا خيار الا في خوض القتال ضد الغزو القادم بالرغم من الفارق التقني الهائل في الجانب العسكري على مستوى الاسلحة والقدرات بين أكبر قوة عسكرية عالمية وبين قدرات دفاعية محدودة قيدّتها ظروف الحصار الشامل وأضحت لا تتعدى اسلحة قديمة متعبة مع بعض التحسينات، او الفارق في الجانب الاقتصادي بين اقوى قوة اقتصادية عالمية وبين بلد محاصر لا يدخل اليه سوى الغذاء والدواء وبنزر قليل لا يكفي حتى الحد الادنى من المستلزمات والامكانات الطبية في العلاج او في القيمة الغذائية لما يصل إليه من غذاء. وكذلك الفارق في الجانب المعلوماتي بين القوة الغاشمة التي تمتلك الاقمار الصناعية والمركبات الفضائية المتخصصة في جمع المعلومات الدقيقة وطائرات التجسس من نوع (يو- تو) التي كانت تجوب سماء العراق وتمسح أرضه يومياً وتسجل كل متغيراتها وبين العراق الذي لا يمتلك حتى امكانية تسيير طائرة استطلاع واحدة لجمع المعلومات او تأمين التغطية الجوية ولو بصورة محدودة للقطعات البرية.
الفارق التكنولوجي والفِعل المقاوِم
ومن المعطيات المشار اليها سابقاً، وبموجب هامش المحدودية في الخيارات المتاحة امام القيادة العراقية في خوض هذا الصراع الخطير، فضلاً عن التسهيلات التي تقدمها الارض لصالح القوات الغازية حيث الصحراء الخالية من القوات، فكان لابد للقيادة العراقية ان تلجأ الى خوض الحرب على حافات وداخل المدن نفسها، فتضحّي القيادة بموقعها الوظيفي الرسمي وبكل مفاصلها لتشتبك هي وشعبها وقواتها المسلحة وتنظيماتها الجماهيرية القتالية مع القوات الغازية داخل مدن العراق بغية تحييد القوى المادية المتفوقة سواء في ما تمتلكه القوات الغازية من اسلحة دمار شامل او الصواريخ الموجهة عابرة القارات او الطائرات القاصفة والمقاتلة او طائرات الهيلوكوبتر المقاتلة المتطورة او الدبابات الحديثة، وغيرها لتضع قوات الغزو في مستنقع عميق، وتجعل افرادها في وضع واهن يسهل به اصطيادهم ضمن استراتيجية حرب شعبية مقاومة منظمة، وقيادة كفؤة، وهذا ما يفسر نشوء المقاومة يوم 11 نيسان/ ابريل2003م حيث عقد المهيب الركن صدام حسين القائد العام للقوات المسلحة اجتماعات للقادة السياسيين والعسكريين واوضح فيه عن بدء الصفحة الثانية من الحرب والانتقال الى الحرب الشعبية والتواصل في القتال دون توقف.
كما يفسر ذلك الخسائر الهائلة التي وقعت في صفوف الغزاة. فبعد دخول وانتشار القوات الغازية في عموم جغرافية العراق بمدنه وقصباته انحسر الفارق التكنولوجي الذي كان سائداً خلال العشرين يوماً الاولى من الحرب ابتداءً في ليلة 19/ 20 آذار/مارس 2003 وحتى احتلال العاصمة بغداد يوم 9 نيسان/ ابريل والذي كان لصالح القوات الامريكية، حيث دقة الرمي (عن بعد) لعموم اسلحتهم ، وكثافة هذا الرمي، دون امكانية التصدي للطائرات والصواريخ والدبابات بمديات الاسلحة العراقية المحدودة المتوفرة. وعلى سبيل المثال فإن طائرة الأ باتشي الامريكية كانت تعادل (فرقة مشاة) عراقية كاملة بمستوى كثافة ومدى ودقة الرمي، فلهذه الطائرة القدرة على معالجة ثمانية اهداف متنوعة او متشابهة في آن واحد، وبمدى لا يقل عن(10-12) كيلومتراً بعد سحب هذه الاهداف بواسطة حاسبة الكترونية ومشاهدتها بدقة على الشاشة بمسافة سنتمترات عن عين الرامي في الطائرة وبدقة رمي عالية جداً. وليتصور المرء اعداداً كبيرة من هذه الطائرات في هجوم بآن واحد على جبهة محددة وضيقة، وبالطبع فإن هناك ارتباطاً ملاحياً بين هذه الطائرات وبين دبابات (ابرامز) واتصالات كفوءة لتوجيه هذه الدبابات الى اهدافها بدقة فضلاً عن التحسينات التي اجريت على تدريع هذه الدبابة وانسيابية شكلها كيلا تخترقها قاذفات (الاربي-جي-7) الروسية الصنع حيث تؤمن للجندي الامريكي التحصن داخل هذه الدبابة بنسبة امنية عالية فضلاً عن المدى البعيد التي يتمتع بها مدفع الدبابة للاشتباك.
قوّة سبعون قنبلة نووية في عشرين يوماً
نعم أخي القارئ، لا تستغرب العنوان، إنها الحقيقة الساطعة التي شهدتها الحرب الأمريكية البريطانية ضد العراق، البلد العربي المسلم المجاهد.
لم تكن حرباً بمعنى الحروب، ولا صراعاً بمعنى الصراعات، ولا معارك تجري بين طرفين في الأجواء وفي الأرض والبحار مثلما هي بقية المعارك. ولعل كل ما قيل ويقال عن الجيش العراقي الباسل من أنه ترك سلاحه ولم يدافع عن بلاده وشعبه كذباً وزيفاً تبناه الأعداء سبيلاً إعلامياً كجزء من الحرب النفسية لإحباط ما تبقى من قيم هذه الأمة.
هذا الجيش الذي لم يثبت التاريخ عليه يوما ما ثلمة وطنية طيلة سني كفاحه ودفاعه عن العراق والأمة العربية. فتلك هي الأرض الفلسطينية التي تضم مقبرة الشهداء العراقيين في جنين، وتلك المقبرة العراقية للشهداء في دمشق. وهناك في أرض المفرق الأردنية مقبرة لشهداء الجيش العراقي البطل، وتلك أجواء سيناء المصرية شاهدة على مرور الطائرات المقاتلة العراقية لتدك معاقل وحصون الجيش الصهيوني.
وتلك هي صواريخ الحسين التي حطمت نظرية الأمن الإسرائيلي بعد أن أخذت معها صواريخ الباتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ لتدمر بها ومعها المواقع الإسرائيلية في تل أبيب والنقب وغيرهما عام 1991.
نعم، أنها قوة سبعون قنبلة نووية، ولم يكن لهم أن يخترقوا جيش العراق المرابط على حافات المدن العراقية ويدخلوها إلا بها.
واعتمدوا هذا الحجم الهائل من المتفجرات قياساً على ما سبق لهم أن استخدموه في نهاية الحرب العالمية الثانية ضد اليابان عندما قرروا استخدام السلاح النووي على مدينتي هيروشيما وناغازاكي لينهوا بهما الصمود الياباني الذي كان يعد صموداً اسطورياً في حينه، فاستسلم هيرو هيتو واجبروه على توقيع وثيقة شروط الإذعان على ظهر الباخرة الأمريكية وتحت ظل العلم الأمريكي بعد ان فرضوا على الامبراطور الياباني الانحناء للعلم في محاولة إذلال الشعب بأسره ولتبقى هذه الشروط قائمة حتى يومنا هذا.
نعم إنها قوة سبعين قنبلة نووية ، فالقنابل النووية تقاس وفقاً لما تحمله من زنة المتفجرات من نوع (تي.أن.تي) بمقياس (الكيلوطن) أو (الميكاطن) والكيلو كلمة لاتينية تعني (ألف) أما الميغا فتعني (المليون) ولذلك عندما نقول ان القنبلة النووية هي من عيار (عشرين كيلو طن) فذلك يعني انها ذات زنة عشرين الف طن من المتفجرات.. وإذا قلنا ان القنبلة من عيار (1) ميغا طن فذلك يعني انها ذات زنة مليون طن وهكذا القنبلتين النوويتين الأميركيتين اللتان استخدمتا ضد هيروشيما وناكازاكي كانتا من عيار (20) كليو طن.
وعندما نطبق هذا المقياس على ما جرى في العراق، ففي العام1991م وبعد انتهاء العدوان الامريكي العسكري الثلاثيني جرى إحصاء كمية المتفجرات المستخدمة فكانت (140) كيلو طن ضد العراق واعترف بذلك كولن باول في حينه عندما كان يشغل منصب رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة أي ما يعادل (7) قنابل نووية من عيار (20) كليو طن.
أما في الحرب العدوانية الأخيرة سنة 2003م ميلادية ففي مؤتمر صحفي لوزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد وجه له سؤال عن كيفية التعويض عن تحالفاتهم العسكرية الواسعة التي اعتمدوها سنة 1991م في حربهم ضد العراق سنة 2003م بالاكتفاء فقط ببريطانيا بالدرجة الأساس وبعض المشاركات الإيطالية والاسبانية والأسترالية البسيطة، فأجاب بأن ذلك قد تم التعويض عنه بحجم المتفجرات ودقة الإصابة.
وقال إنه (استخدم عشرة أضعاف ما استخدم من متفجرات سنة 1991م) ولذلك فإن ما أُستخدم سنة 2003 كان ما يعادل”70″ قنبلة نووية لتحقيق الفعل التأثيري الكبير في عملياتهم العسكرية علماً أن هذه المتفجرات كانت قد استخدمت على القطعات العراقية المتواجدة على حافات المدن وحتى داخلها، فضلاً عن استخدامها ضد البنية التحتية الارتكازية العراقية لتأمين الاختراق إلى المدن العراقية لدخولها واحتلالها.
ووفق هذا المنظور كانت القيادة العراقية قد بنت تصوراتها ودفاعاتها وتحديد الأسلوب الأمثل لمقاتلة الغزاة والاشتباك بهم بعد انتهاء الصفحة الأولى من الحرب. هذه الصفحة التي بلغت مدتها عشرين يوماً من المقاومة الباسلة، ولعلها أيام طويلة، على العكس مما تصورها الآخرون بأنها قليلة ومحدودة، لينتقل بعدها الجيش وقوى المقاومة الأخرى إلى استراتيجية الحرب الشعبية الشاملة، هذه الاستراتيجية التي ارتكزت على الاستدراج والاستنزاف والتدمير لقوات الغزو، حيث لا خيار إلا في هذا المجال.
وبالرغم من كل هذا المستوى من التكنولوجيا العالية، إلا أن القوات العراقية والمقاومة الشعبية كانتا قد تمكنتا خلال أيام الاصطدام قبل الاحتلال من تحقيق الكثير من النتائج والنجاحات، وتصدت القوات المسلحة العراقية في عموم قواطع العمليات الحربية لقوات الغزو بكل بسالة وشجاعة وكبدتها خسائر كبيرة وقاومتها بعنف طيلة أيام الصدام المسلح النظامي وفق ما مخطط لها ، على العكس مما كان يذكره الإعلام المركزي الامريكي – الصهيوني الذي أنتهج مبدأ (الديكتاتورية) المطلقة في إدارته لشئون الحرب دون أن يسمح لأي محطة فضائية أو مراسل حربي أو صحيفة تدلي بأي معلومات معاكسة لما يريده هذا الإعلام. ومعركة المطار كانت خير دالة على الفعل العسكري العراقي الذي دمر القوات الامريكية بصورة كاملة لجولتين متتاليتين حتى استخدم الامريكان بعدها تلك الاسلحة الفتاكة التي صهرت الدبابات العراقية ونزعت جلود الشهداء عن عظامهم.
وإذا أخذنا الواقع الذي جرى بعد الاحتلال وانتشار القوات الامريكية والبريطانية في ارض العراق الحبيب فإن الجندي الامريكي ودباباته وطائراته الهيلوكوبتر اصبحت ضمن متناول يد (المقاوم) العراقي الذي نزع بزته العسكرية هو ومن معه من فصائل المقاومة الشعبية، وبدأوا ينتقون المكان والاسلوب والنمط والسياق والاتجاه والوقت الملائم ليقنصوا الدبابة والناقلة والجندي الامريكي الذي اضحى يعيش في بيئة عدائية وبملابس وتجهيزات ثقيلة تحد من حركته ومناورته، ناهيك عن الاحباط المعنوي الذي اصيب به الجنود الامريكيون بعد ان ظللتهم المخابرات الامريكية المستندة على معلومات الخونة والعملاء بإشعارهم بأنه سيتم استقبالهم من قبل العراقيين بالورود والترحاب، بل انها اقترحت توزيع اعلام امريكية صغيرة بأعداد كبيرة الى الشعب العراقي للتلويح بها للجيش الامريكي عند دخوله المدن العراقية باعتباره (جيشاً محرِّراً) على ان يتم المباشرة بتوزيع هذه الاعلام في منطقة (الناصرية) التي شهدت أشد مقاومة ضد الجيش الغازي.
فأسقط شعب العراق العظيم قوة وجبروت وسمعة وهيبة أمريكا في وحل الهزيمة المنكرة.
وبالرغم من كل المؤامرات الدولية والإقليمية التي سلّمت العراق الى العدو الفارسي ليملأ الفجوة التي حصلت بعد هزيمة الجيش الأمريكي، فإن أبناء العراق الأشم، ورغم كل ما اصابهم من قتل وتعذيب وتشريد ودمار فان صبرهم لن يطول حتى يسحقوا الاحتلال الإيراني الجديد كما الأول، فثورة المناطق الغربية والشمالية ليست ببعيدة عن الذاكرة، وثورة تشرين في الوسط والجنوب اقرب من ذلك، ولا بد للذاكرة أن تنهض وتنتفض في العقل والضمير الجمعي الثائر من جديد.