في مواجهة التطبيع مع العدو الصهيوني
تبقى المقاومة الشعبية هي السلاح الأقوى
حسن خليل غريب
في دراستين سابقتين تم تناول أسس وآليات مقاومة وافشال التطبيع مع العدو الصهيوني. وقد تم تناول حيوية شعبنا العربي في فلسطين. تلك الحيوية هي الشعلة التي تحرِّك الجمود السائد على المستوى العربي والدولي، فتشعل الشارع الشعبي أينما كان، وهي التي تضع كل الأنظمة الرسمية أمام مسؤولياتهم التاريخية ازاء هذه الامة. وقد تم توضيح بعض العوامل الحاسمة والمتداخلة مع هذا الموضوع وهي:
أولاً: تلاقي مصالح الطبقات الحاكمة في الوطن العربي ومصالح الرأسمالية العالمية.
ثانياً: المخاطر الصهيونية على القضايا العربية والدولية.
وفي هذه الورقة نستكمل هذه الحقائق الواقعية:
ثالثاً: فلسطين قضية قومية عربية وأممية معاً
كانت قضية فلسطين في مخطط مؤتمر كامبل بانرمان، محطة مفصلية في بداية التاريخ العربي الحديث والمعاصر، ليس لكونها قضية توراتية يهودية فحسب، بل أيضاً لأنها قضية استعمارية يُراد منها فصل مغرب الوطن العربي عن مشرقه من أجل تسهيل السيطرة على الوطن العربي بكامله واعاقة نهوضه من خلال التقسيم.
وهذا بحد ذاته هدف استراتيجي ينال من حقوق الشعب العربي في ثرواته بكل أقطار الأمة العربية. ولهذا اعتبرت الحركة الثورية القومية العربية قضية فلسطين قضية مركزية، والنضال من أجل تحريرها، هو حماية لأمن الوطن العربي بأكمله.
وأما اعتبارها قضية قومية مركزية فلأن المقصود منها ليس احتلال أرض فلسطين واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم فحسب، بل المقصود أن يكون احتلال فلسطين الخطوة الأولى في المشروع الصهيوني الذي اتَّخذ من فلسطين ذريعة توراتية، تحت شعار (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل)، لتنفيذ مشروع رأسمالي يحكم العالم بقطبية صهيونية واحدة.
فالقضية الفلسطينية ليست قضية حقوق الإنسان الفلسطيني بقدر ما هي قضية الحق العربي في الدفاع عن نفسه لإحباط أكبر مشروع استيطاني يهدف إلى احتلال الهلال الخصيب من الوطن العربي، الذي يشمل فلسطين ولبنان وسورية والأردن والعراق، وصولاً إلى أرض النيل. ففلسطين هي البداية حيث لن تتوقف أطماع المشروع الرأسمالي عند حدودها، بل على طريق الخطوة خطوة ستمتد لتضم كل المساحة الجغرافية المحددة في أهداف الصهيونية العالمية.
من هذه الحقيقة تبدو خطورة المشروع واضحة لكي تنبِّه الغارقين في أحلام الحركات الإسلامية السياسية في بناء دول دينية أن يقلعوا عن مشاريعهم لأنهم سيعطون الذريعة للصهيونية في بناء دولة دينية يهودية. وإلى الغارقين في أحلام بناء دول قطرية تعمل على النأي بنفسها عن الصراع العربي – الصهيوني بحجة حماية نفسها من الغضب الصهيوني. وكذلك إلى الغارقين بأوهام اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية من قضايا حقوق الإنسان، لأنها جريمة اغتصاب موصوفة، تصب في مجرى النهر الصهيوني الذي يخطط للاستيلاء على العالم تحت ذريعة المبدأ التوراتي القائل بأن اليهود هم (شعب الله المختار).
إن قضية فلسطين ليست قضية صراع (فلسطيني – إسرائيلي)، بل هي قضية وجودية تنال بخطورتها كل المكونات الدينية والطائفية والقطرية في الوطن العربي. وتأتي خطورة المشروع من أنه مشروع استراتيجي مفتوح أمام أهداف التوسع إلى أي جزء من أجزاء الأمة العربية. ولهذا تصبح قضية أمة عربية بأكملها، إذ أنه عندما يكتمل بناء المشروع سوف تصبح قضية الأردن ولبنان وسورية والعراق ومصر. ومنه لن تتوقف عجلته بل تمتد لتشمل الوطن العربي بأكمله وسوف يتحول إلى أرض وشعب مسلوب السيادة على الثروات، وعلى القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية. وتشمل خطورته كل هذه القضايا، خاصة أن الاستراتيجية الصهيونية ليست توراتية فحسب لبناء دولة دينية يهودية، بل إنها تعمل من أجل الاستيلاء على ثروات العالم، وفي المقدمة منها ثروات الوطن العربي.
ولأنها ممر استعماري للرأسمالية العالمية، ولأن المنهج الرأسمالي يمتاز بالتوحش، وينال بتوحشه من مصالح البشرية كلها، نعتبر قضية فلسطين قضية أممية من واجب القوى المناهضة للرأسمالية أن تنتصر لها وتؤيدها.
رابعاً: مقاومة التطبيع مهمة نضالية شعبية فلسطينياً، وعربياً، ولأن الأنظمة الرسمية بقصور منابتها الفكرية أو ضعف شعورها بالوطنية أو بانتماءاتها القومية أو شدة الضغوط الدولية عليها، حصرت اهتماماتها بحماية نفسها وثروات شرائح معينة ذات علاقة بالمشاركين فيها، ولأن خطورة المشروع تتخطى الشعب الفلسطيني لتصل إلى الشعب العربي، وتتخطى الأرض الفلسطينية لتصل إلى الأرض العربية، ولأن مصالح الشعب العربي هي المتضررة من تحالفات الأنظمة العربية الرسمية مع القوى الاستعمارية، وأخيراً تطبيعها مع المشروع الصهيوني، لكل ذلك نعتبر أن مقاومة التطبيع مهمة شعبية عربية بامتياز.
ليست مقاومة التطبيع شعبياً مهمة نظرية فحسب، بل لها قواعدها وأسبابها الواقعية والملموسة التي يجب أن تلامس مدارك كل المستويات الثقافية للمجتمع العربي، وبالأخص منها المستويات الشعبية. ولكي نترجمها إلى حالة ثقافية، تقع على عاتق أحزاب وقوى وتيارات حركة التحرر العربي مسؤولية صياغة أسس لثقافة شعبية تختص بإبراز مخاطر التطبيع على المصالح الشعبية استناداً إلى مخاطر المشروع الرأسمالي الغربي – الصهيوني. وفي هذا الإطار سنبرز بعض الجوانب، ومن أهمها ما يلي:
خامساً: وسائل المقاومة الشعبية لمشاريع التطبيع وآلياتها إذا كان الوجه النظري واضحاً أمام الشعب العربي، فإن تحديد وسائله والعمل على تنفيذها هو الوجه الآخر، المكمِّل، ولهذا نرى ما يلي:
1- المقاومة الإعلامية…
بداية، ومن أجل تعميم ثقافة رفض التطبيع على المستوى الشعبي، هناك العديد من الوسائل، تبدأ بوسائل التواصل الاجتماعي، كأبسط وسائل الإعلام المتاحة، ومروراً بالبوسترات، والمقالات، ونقل أخبار جرائم العدو الصهيوني، والكشف عن أكاذيب الدول الاستعمارية، وغيرها الكثير من الوسائل والقواعد. وربما استحداث صفحات خاصة لمخاطر التطبيع، وكل ما ينتج عنها من وسائل أخرى، خاصة من قبل المختصين بإعلام وسائل التواصل الاجتماعي.
2- المقاومة الشعبية السلمية…
باعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية قومية، مركزيتها الساحة الفلسطينية، يمكن تحديد المهمات وتوزيعها على مستويين: فلسطيني وآخر قومي عربي.
أ-على المستوى الفلسطيني: في الداخل، وفي الشتات، كل ما سوف نقوم بتحديده أو الإضاءة عليه، يتعلَّق بعامل أساسي واحد، وهو وحدة القوى السياسية على الأرض المحتلة، أو ما تُسمى بمنطقة الحكم الذاتي. ولكن ما تجب الإشارة إليه هو أن لا يؤدي أي خلاف إلى ضياع القضية الفلسطينية الأم، والانتباه الى ضرورة عدم ترويج الإعلام، بحسن نية أو بسوئها، باستخدام مصطلحات تفتيتية بإبراز أجزاء من فلسطين (مثل التمييز بين قطاع غزة والضفة الغربية)، بدلاً من استخدام (القضية الفلسطينية) كمصطلح جامع وذي دلالة وطنية. وعن ذلك ندعو القيادات الفلسطينية المعنية إلى الاتفاق لرفع اللًبس عن استخدام تلك المصطلحات.
- على مستوى الوجود الفلسطيني في الداخل وخاصة في الضفة الغربية وغزة بالإضافة إلى حركة الانتفاضات الشعبية، ولأن ما أنجزته الانتفاضات المتواصلة منذ الثمانينيات من القرن الماضي وصولاً إلى هذه اللحظة، نعتبر أن الشعب الفلسطيني خلاَّق في ابتكار الوسائل والأساليب. ولأننا نعتبر أن تلك الساحة أساسية لأنها تجذب اهتمام وسائل الإعلام الدولي، كما تجذب اهتمام الحركات المدنية والإنسانية، نعتبر كذلك أن تجربة شعبنا في فلسطين غنية وفعالة، وعليهم أن لا يغفلوا أهمية دورهم ومركزيته. واعتبار أي دعم شعبي عربي أو دولي له دور في اسناد نضال الشعب الفلسطيني، مهم ولكنه ليس الأساس. وكلما توفرت عوامل الإدامة والاستمرار والتجديد النضالي بكل الوسائل المتاحة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة، كلما اصبحت عوامل الدعم العربي والدولي أكثر فاعلية.
- على مستوى الوجود الفلسطيني في الشتات حيثما تسمح الظروف، وكي لا يهيمن التسابق الإعلامي الفئوي، على شتى الفصائل الفلسطينية، أن تعتمد الإعلام الموحد المباشر في نشر ما يساعد على الكشف عن مخاطر التطبيع، هذا إضافة إلى استخدام شتى وسائل التحرك من تظاهرات واعتصامات، وندوات، ومحاضرات من أجل منع التعتيم على الحقائق مما قمنا بتحديده في بداية هذه الدراسة.
ب – على المستوى القومي العربي عود على إعادة التذكير باعتبار القضية الفلسطينية قضية قومية عربية مركزية، لا يسعنا سوى إلقاء عبء مسؤولية ترجمة هذا المبدأ الاستراتيجي على حركة نضالية شعبية عربية في مواجهة مشاريع التطبيع الرسمي. ومن أجل توسيع بوابات ثقافة الرفض الشعبية. ومن دون الخوض في تفاصيلها لأن أطراف حركة التحرر العربية لها تجاربها وأفكارها الخلاَّقة. ولكن ما نتمناه هو إعادة تفعيل تلك الوسائل وهو أضعف الإيمان.
– سادساً: من نتائج الدراسة
نختم دراستنا بالقول: اذهبوا بتواقيعكم الرسمية أينما شئتم، ظناً منكم أنكم ستحمون ثرواتكم من المرابين الصهاينة الأكثر وحشية في التاريخ. ولكنكم لن تنالوا بتوقيعكم سوى الرفض الشعبي، لأن الشعب العربي، إضافة إلى الرفض الشعبي العالمي، يحمون بذلك كرامتهم من العبودية للرأسمال الصهيوني، ويعملون على خلاص دولهم من العبودية للصهيونية. وحتى لا تُتَّهم دراستنا بالتحريضة الخالية من المضمون الموضوعي، نضع أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي، بشكل خاص، الأسئلة التالية:
- ألم تتساءل الأنظمة الرسمية العربية: ماذا ستجني من الاتفاقيات الجديدة؟ وإذا لم يدركوا مآلات من سبقهم بالتوقيع عليهم أن يضعوا نصب أعينهم الإجابة على التساؤلات التالية:
- هل توجهوا إلى النظام المصري بالسؤال: ماذا جنى الشعب المصري من اتفاقية كامب ديفيد؟ وهل يجهلون أن السادات عندما قام بتوقيعها بزعم انه يريد توفير نفقات الحرب عن كاهل الشعب المصري؟ وإذا فليبحثوا عن تلك النتائج وليسألوا (القطط السمان المصرية)، وفي عهد حسني مبارك، كم جنى الشعب المصري من فوائد؟
- هل توجهوا إلى النظام الأردني بسؤال: ماذا جنى الشعب العربي في الأردن من فوائد اتفاق وادي عربة؟ وإذا كانوا يجهلون تلك النتائج فليسألوا: هل الاقتصاد الأردني نجا من كوارث اهتزازه في أية لحظة؟
وأخيراً، وإذا كان تشيلوك قد طالب باقتطاع كيلو غرام من لحم أنطونيو الإيطالي لأنه عجز عن سداد دينه، فكم ستقتطع الصهيونية العالمية من ملايين الأطنان من لحم الشعب العربي لسداد الديون التي تسلِّفها صناديق النقد الدولية لأنظمتهم الرسمية؟
إن الحل يكمن في المقاومة الشعبية التي هي السلاح الأقوى في مواجهة التطبيع من جهة، ومواجهة المشروع الصهيوني – الاستعماري الخبيث من جهة أخرى.
مكتب الثقافة والإعلام القومي