تَأْثِير ثَقَافَةِ الحَرْبِ عَلَى الوَعْيِ الجَمْعِيّ ودَور النُخَب العَرَبيّة

تَأْثِير ثَقَافَةِ الحَرْبِ عَلَى الوَعْيِ الجَمْعِيّ

ودَور النُخَب العَرَبيّة

أحمد محمود أحمد

في اوقات الحروب والاستهداف المنقطع النظير والأزمات الكبرى وسيادة العنف بكل اشكاله التي يشهدها وطننا العربي في اغلب اقطاره وخاصة في فلسطين والسودان والعراق واليمن وليبيا وغيرها ، يتعرض الوعي الجماهيري الى هزات عميقة، ويتراجع دور النخب الفكرية والثقافية والمجتمعية العربية بشكل خطير، لتحل محله الادوات السطحية التي تخدم تلك الحروب والازمات، وتصبح هي الصانعة لثقافة ذلك العنف مستخدمة كل القنوات الممكنة ولاسيما وسائط التواصل الاجتماعي . ويعد تأثيرها على الوعي الجمعي العربي  من اخطر تبعات تلك الحروب لانها لا تتوقف عند القتل بل تتعداه الى تمزيق النسيج  الاجتماعي واشاعة الكراهية بين افراده من اجل تفتيته والقضاء عليه وصولاً الى اهداف استراتيجية يسعى الى تحقيقها اعداء الامة العربية .

ولو اخذنا ما يجري في السودان على سبيل المثال يحق لنا ان نتساءل، هل من الممكن أن تدخل مفردات مثل ” فتق” * أو “متق” إلى مجال الثقافة السودانية

  وتبقى متصدرة المشهد ويرددها البعض دون مساءلة دلالاتها  أو معانيها؟.  فهل وصلت تداعيات الحرب أن يكون المهوسون والدجالون والكذبة هم سدرة منتهى الوعي وصناع الثقافة؟  إنها أسئلة تجيب على تردي مضامين الحياة نفسها ومعها الثقافة حيث تجترح الحرب الدائرة اليوم في السودان اتجاهاً جديداً يمكن أن نطلق عليه وعي ثقافة الحرب، الذي بدأ يتغلغل في الوعي الجمعي السوداني. وتتشكل من خلال ذلك لغة جديدة مشبعة بالعنف  وتستقي نسقها المعرفي من خطابات الحرب المبثوثة عبر وسائط التواصل الاجتماعي.

 وضمن تصنيف عام فإن أخطر ما ينتج عن الحرب يتصل بتاَكل النسيج  الاجتماعي وانتشار ثقافة العنف والكراهية وبروز العنصرية.  وفي ظل هكذا واقع يضمحل المعنى الإنساني  وتتراجع قيم الاحترام  والتسامح  بين الناس وكذلك يضمحل الإبداع وعلى كل الأصعدة ويدخل المبدعون في شرنقة الذات والاختفاء من المشهد العام، وتُترَك الساحة لسدنة القوى المتورطة في الحرب وهي قوى في أغلبها من قوى التخلف والتفتيت وتجيد تصدير اللغة الهابطة ونحت المفردات التي تتوافق مع القتل ونحر الآخر .

  وفي حين كان الفضاء السوداني وبعد ثورة ديسمبر يتشكّل أفقه عبر لغة تشتغل على تأطير معنى الوجود الإنساني  ضمن جمالياته المستبطنة، الذي يتماهى مع استمرارية ذوات الأفراد نحو التأسيس لحيز زماني ومكاني يتم فيه نفي القبح. وتلتقي هذه الذوات في قارعة الطريق من أجل صناعة الأمل باتجاه بناء الحياة الجديدة والسودان الجديد الموحَّد، الناهض والمزدَهر.  وكانت هذه الثقافة المرتبطة بالمعنى تنسحب إيجاباً نحو مجتمع أرهقته تفاصيل الحياة ولكنه كان يمتلك القدرة على النهوض.

  وجاءت الحرب لتقعده ليتفرج على القنابل والمسيرات ويستمع إلى خطابات “الانصرافي” ويشاهد عروض  “ندى القلعة” وقونات الزمن العجيب النائحات بغناء الحرب فوق دماء السودانيين.

  هكذا تنتج الحرب خطاب العتمة، الذين يتسيدون فيها هم المسرفون في إراقة الدماء والمبتسرون الذين وبحكم البيولوجيا جاءوا ليشوهوا حياة الناس ويهدموا مشروع ثقافة الحياة لإقامة مشروع ثقافة الموت. ولهذا يتحول الذبح إلى طقس يتفرج عليه السودانيون وكأنه مشهدٌ سينمائيٌ، ويتحول سحل الناس على الطرقات والدماء تقطر منهم إلى لوحةٍ قاتمةٍ  تلغي لوحة الفنان التشكيلي، الذي قتلته الحرب وفقد ريشتة، التي سقطت للتحول إلى بندقية في يد صبي قد دخل أول مدرسة له وهي مدرسة البراء ابن مالك أو كتيبة دقلو ابن دقلو.

  وهكذا فنحن نخرج من ثقافة الثورة إلى ثقافة القتل على الهوية، ونخرج من  ثقافة الميادين إلى ثقافة العزلة. ومن شعار سودانا فوق، إلى واقع أن هذا السودان قد يراد له أن يدفن تحت الأرض  ليدفن الإنسان أولاً  ومعه الأمنيات  والأحلام العريضة.  هكذا يفعل صناع الحرب وما الحرب إلا ما علمنا وما لم نعلم وقد صار القتل هو العنوان، الذي  تطالعنا به كتائب الدم العابرة لجسد الإنسان إلى روحه وتصدير ثقافة الموت بكونها سلعة وجرى  تطويرها عبر المسيرات ليتلون فضاء السودان بخارطة الدماء ورائحة الموت.

  لقد شاهدت فيديو تمثيلي لشخص افترض نفسه أنه يدرس لأطفال ووضع أمامهم الحروف وطلب منهم أن يرددوا خلفه منطوق الحروف، فكان يقول لهم الحروف وهم  يرددون  خلفه كالآتي: حرف الميم ( ما متق) وحرف الفا (فا فتق)  وحرف السين ( سا ساخوي)، وحرف الحا( ح حرب). وهكذا لخص صاحب هذا الفيديو الذكي مأساة الأجيال ومأساة السودانيين اليوم، حيث تفرض الحرب ثقافة جديدة عنوانها “بل بس” و”جغم بس”  و”أكسح و أمسح”.  ومع هذه اللغة تضيع ثقافة الإنسان السوداني  ويبقى الفراغ، ويبقى هؤلاء الذين أعدموا لغة الحياة من أجل تشييد لغة الموت.

ان هذا التأثير الخطير على الوعي الجمعي يحدث في كل قطر عربي يشهد حرباً او ازمات كبرى او عنف غير مسبوق، تتعدد اشكاله وادواته ولكن الهدف واحد وهو استهداف الامة ووجودها .

 انها دعوة الى النخب العربية الفكرية والثقافية والمجتمعية في كل مكان من الوطن العربي ان لا تتخلى عن دورها في الحفاظ على الوعي الجمعي العربي من التأثير الخطير الهدام للحروب والعنف والأزمات التي تجتاح الامة العربية فتستهدف وجودها في الصميم. وان تتصدى بكل قوتها للأدوات الهابطة التي يقحمها العدو بين ابناء الامة لاضعافها وتمزيقها.  

 

 

*مفردات عاميّة افرزها خطاب قوى الحرب للإستخدام التعبوي.

Author: nasser