تزوير الشهادات أهم وسائل التخريب والهدم المُبَرمَج للدولة والمجتمع
د. غسان الجبوري
في ظل الدولة العراقية ومنذ نشأتها توالت على المؤسسة التعليمية والتربوية اجيال حرصوا على بناء منظومة تربوية وتعليمية رصينة وإبعادها عن التدخلات السياسيّة والشخصية، من اجل أن تكون هنآك أسس سليمة وقيم وأعراف وتقاليد جامعية رصينة لتحقيق هدف الإرتقاء بالبلد وانجاز نهضة علمية منافسة لبلدان العالم المتقدم، أساسها بناء الإنسان العراقي المتسَلِح بعلمٍ غَزير وإطلاق مواهبه من أجل الإبداع والتميُّز.
وقد عملَت الحكومات المتتالية للدولة العراقية قبل 2003على بناء البنية التحتيّة اللازمة لتحقيق ذلك وهي عبارة عن منظومة متكاملة من القوانين والتعليمات والممارسات والاجراءات منها تعيين كبار الاساتذة الجامعيين في قيادة المؤسسات التعليمية والتربوية من أجلِ الحفاظ عليها وعدم خروجها عن منهجها الأساس، وضمان عدم التدخل في مناهجها الدراسية وطرق تدريسها وترقية كوادرها ومعادلة شهادات منتسبيها وفق المعايير العالمية المعتمدة في اكثر الدول تقدماً.
ولا يخفى على أحد حجم التخريب الذي طال كلّ شيء في العراق منذ احتلاله من قبل أميركا ومن ثم ايران في 2003. على ان اخطر انواع الهَدم والتخريب هي التي تَستهدِف هدم المجتمع والبُنى التحتية لتنشئة الأجيال الصاعدة وبناء الإنسان فيه، والدولة القادرة على ضمان حقوقه في العيش الحُرّ الآمن الكريم وتحقيق النهضة. ولأن مِن أهم مستلزمات كل ذلك هي الكوادر العلمية والمتخصصة المؤهَلة، فقد كان اهم هدف للإحتلال الامريكي الايراني المزدوج هو استهداف تلك القاعدة بعدة طرق منها القتل والتهجير والحرمان من العمل، واخيرا وليس آخِراً تزوير الشهادات.
وقد لقِي هذا الإجراء استجابة واندفاع طبيعي في ظل العملية السياسية في العراق وذلك للتخلف والجهل والشعور بالنقص الذي يتميَّز به من يشارك بها ويقوم عليها، ومن اجل سدّ هذا النقص والحصول على شهادات عُليا فتحوا باب للتزوير من خلال مجلس النواب، وذلك بإصدار ما يسمى قانون معادلة الشهادات والدرجات العلمية، لإتاحة الفرصة للجهلة والمتخلفين للحصول على الشهادات العُليا بالرشوة والتزوير.
إن الغاء تعليمات رقم5 لسنة1976 والتي عزَّزَت المحافظة على رصانة الشهادة العراقية طيلة السنين التي سبقت الاحتلال الامريكي الايراني للعراق كانت اولى خطوات شرعنة التزوير .
ان التفكير الذي رافق القائمين بالعملية السياسية هو تفكير خطير منحرف فهو يعمل على تنفيذ الهدم المنظَّم والمُبَرمَج للعراق دولة وشعباً، ومن يقوم به لا يهتم بمصلحة البلد في حده الادنى. خلاف ماكانت تهدف اليه مؤسسات الدولة العراقية منذ تأسيسها عام 1921، وخاصة ما هدف اليه الحكم الوطني بعد ثورة 17 تموز والذي أنشأ وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لأول مرة في العراق عام 1970، ثم تأسيس المجلس الاعلى للتعليم العالي في العراق وعقد مؤتمره الاول عام 1971 والذي كان بحق خطوة تاريخية كبيرة حيث وضع أهم الإستراتيجيات للنهوض الواسع للتعليم العالي في العراق والتي اعتمَدَت عليها كل السياسات اللاحقة. ثم صدر قانون رقم 40 لسنة 1988 لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي والذي لخَّصَت المادة 2 منه هدف الوزارة بما يلي :
( تهدف الوزارة الى احداث تغييرات كمية ونوعية في الحركة العلمية والتقنية والثقافية وتوجيه المؤسسات التعليمية والبحثية بما يحقق التفاعل المستمر بين الفكر والممارسة باتجاه تحقيق الاصالة والرصانة العلمية والتفاعل مع التجارب والخبرات الانسانية بالشكل الذي ياخذ بنظر الاعتبار خصوصية مجتمعنا وتجربتنا المتميزة وصولا الى بناء اجيال جديدة متسلحة بالعلم والمعرفة ومتشربة بالمباديء والقيم السامية ومؤمنة باهداف الامة العربية وتاريخها الحضاري ودورها الانساني ولتكون قوة فاعلة ومؤثرة في المجتمع وقادرة على الاستمرار بحمل الرسالة والحفاظ على منجزات ثورة 17 تموز واهدافها في الوحدة والحرية والاشتراكية وتلبية احتياجات خطط التنمية في جميع فروع المعرفة الانسانية ومتطلبات تطور المجتمع. كما تهدف الوزارة الى تطوير العلاقات العلمية والثقافية والفنية مع الاقطار العربية بهدف تحقيق الانسجام والتكامل في مجالات العلم والمعرفة وصولا الى تحقيق الوحدة الثقافية وتوسيع وتوثيق اواصر التعاون في هذه المجالات مع الدول والمؤسسات العلمية المختلفة في جميع انحاء العالم).
إن القانون سيء الصيت الذي اصدره مجلس نواب الاحتلال كان بمثابة الباب المفتوح لدخول الشهادات المزوَّرَة من كافة المناشيء وربما فضيحة الشهادات الممنوحة من بعض الجامعات اللبنانية والتي بلغ عددها 27 الف شهادة الى وزراء ونواب ومسؤولين كبار في السلطة وما يصدر من ايران من آلاف الشهادات المزورة لاتباعها وفي مختلف التخصصات الا غيض من فيض.
إن التزوير والحصول على الشهادات العليا لايقتصر على لبنان و ايران بل يشمل دول كثيرة مثل روسيا واوكرانيا وبريطانيا وامريكا ودول اخرى عديدة حيث اتاح قانون مجلس النواب الفرصة السانحة للمزوِّرين بالحصول عليها من خلال إلغاء تعليمات رقم 5 لسنة1976 والتي لا تعترف بالشهادة المتحصَّل عليها دون الاقامة في البلد المانِح لها .
لقد سمح القانون سيء الصيت الحصول على شهادة الماجستير والدكتوراة من خلال الاقامة اربعة اشهر فقط متصِلة او متفرقة. كما سمح القانون بالاعتراف بالشهادات الصادرة من الجامعات غير المعترف بها، وهذا باب اخر للتزوير من خلال شراء هذه الشهادات مقابل 5000 و10000 دولار للماجستير والدكتوراة من الدكاكين الاكاديمية مثل اكاديمية البورك في الدنمارك وغيرها.
إن التزوير للشهادات بدأ مبكِّراً من قبل عملاء وذيول ايران عندما تم معادلة الشهادات الصادرة من المعاهد الدينية الايرانية، وأتاح لهم تكملة الدراسة في مختلف التخصصات خلاف التعليمات التي تُلزم ان تكون البكالوريوس مطابقة لتخصص الشهادة العليا. ويمكن اجمال الأضرار الكارثية للشهادات المزوَّرة بما يلي:
- إن قانون مجلس النواب في المادة12 اولاً وثانياً، سمح للوزراء والوكلاء والمدراء العامين والنواب والموظفين بالانتماء للدراسات العليا استثناءً من المواد ( 26-27-28) من قانون رقم 40 لسنة 1988وتقييم خدماتهم السابقة للشهادة العليا من اجل ترقيتهم من قبل لجان في دوائرهم وهنا يكمن التزوير الفاضح.
- الغاء متطلب وجود اطروحة او بحوث في شهادة الدكتوراة الاجنبية مما سهل عملية التزوير.
- التأكيد على عدم النظر بالقيمة العلمية للشهادة المُراد معادلتها من قبل لجان المعادلة مما فتح الباب لقبول أطاريح مزوَّرة او مسروقة.
- الإكتفاء بمصادقة الملحقية الثقافية العراقية على الشهادة دون مصادقة وزارة خارجية البلد المانح مما سهَّل التزوير لأحزاب السلطة.
- الغاء اللجان المركزية لمعادلة الشهادات والتي كانت السد المنيع الذي يمنع دخول التزوير، مما اتاح للاحزاب المتنفذة تزوير آلاف الشهادات وبالتالي سمح لحامليها بالدخول إلى سلك التعليم من أجل تخريبه وكل ذلك بدفع وتخطيط منظَّم ومبَرمَج من ايران.
ورغم قتامة الصورة وأبعادها الخطيرة على مستقبل العراق واجياله القادمة ، الا ان ثقتنا عالية بشبابنا العراقي من ثوار تشرين وكل ابناء شعبنا الصابر الواعي الملتف حولهم، ان لايسمحوا لهؤلاء المزوِّرين ومن يقودهم ويزرعهم في البلاد، من تخريب البُنى التحتية للدولة والمجتمع العراقي ، وهدم التراث العلمي والفكري في قطاعي التربية والتعليم والذي بُنِي عبر كفاح ونضال أجيال متعددة.
وهي دعوة لشباب هذا الجيل الواعي الثائر لأن يحافظوا على نقاء ورصانة الشهادة الاكاديمية العراقية واعادة الثقة بها من قبل العراقيين اولا، ومن قبل الامة العربية والاسلامية والمنظمات والمؤسسات التعليمية والمجتمع الدولي ثانيا. فرصانة الشهادات العلمية هي القاعدة الأساسية لتربية الاجيال بعد الاجيال بشكل سليم. وهي القاعدة الأساسية لكل البُنى التحتيّة للدولة، فان تم هدم وتخريب هذه القاعدة بالتزوير، فلن تبقى هنالك أجيال صاعدة ولا مجتمع ولا دولة.
فالعبرة في الثورة هي ليست تغيير وجوه بوجوه، ولا حكومة بأخرى، وانما بتحقيق مصلحة الوطن من خلال تحريره من كل القوى التي تعمل على هدمه ، وكذلك الدفاع عن بناه المجتمعية السليمة، وقوانينه وتشريعاته التي كانت العمود الفقري للدولة العراقية منذ تأسيسها فضمنت للشعب حقوقه، وسارت به نحو تحقيق تطلعاته في التقدم والنهضة.