البَعْثِ والثَلاثي الخَالِد : العُرُوبَة،الايمان،التُرَاث
د.محمد رحيم آل ياسين
البعثُ كفكر وُلِدَ من معايشة واقع الامة العربية ، ليكون منفتحاً على العصر ، ومتطلعاً نحو المستقبل، هو حزبٌ قومي عربي انساني، وحدوي، اشتراكي، وهو حزبٌ “عِلمي ديمقراطي عَقيدي، أخلاقي انقلابي (ثوري)، نِضالي شَعبي”…..وهو يُركِّز على القومية العربية، وعلى شخصية الأمة وروحها ومميزاتها وخصائصها. والبعث يؤكِّد على فكرة الأصالة والاستقلالية، والمحافظة على الثقافة والقيَم الأخلاقية التي تُميِّز الأمة العربية عن باقي الشعوب والأمم. وعندما نتمعَّن في هذه المعاني يتبيَّن لنا أنَّ حزب البعث العربي الاشتراكي، قد اعتمد ثلاثية خالدة في فكره ونظريته وفي الأفق العملي والتطبيقي لهما، والمتمثِّلة في العروبة والإيمان والتراث الممزوجة بانفتاحه على العصر وتبني تطوراته وافاقه المستقبلية. وهكذا صاغ البعث فكراً امتاز بأصالته العربية، ومعاصرته المتوازنة مع عمقه التاريخي، وبعده الانساني، وتركيبته العلمية التحليلية للواقع العربي، وهو بعد ذلك يتصل برسالة الامة الايمانية التي حملتها الى الانسانية جمعاء. وعليه فهو يتبنَّى مشروعاً انسانياً عظيماً، يهدف الى بعث الأمة العربية من جديد، بالاعتماد على تاريخها وتراثها الزاخر، وتفاعلها مع روح العصر. ودعا الى أن تنتفض لنفسها على حالها المتهالك اليوم، لترتقي الى المستوى اللائق بأمة عظيمة، اختصَّها الله سبحانه بحضارات عظيمة وبرسالاته السماوية الى العالمين، لتكون أمة الدعوة للبشرية جمعاء الى طريق الحق والعدل والقيم والعلوم والثقافة.
وهكذا كانت فلسفة البعث التي تبنَّاها منذ تأسيسه في السابع من نيسان عام1947م، فالقومية (العربية) والايمان وتراث الأمة الممزوج بالمعاصرة هي المباديء الأساسية التي اعتمدها البعث في صياغة نظريته وفكره القومي. وفيما يلي نتناول بايجاز الركن الثالث من هذا الثلاثي البعثي الخالد عبر الزمان، وهو التراث .
الجزء الثالث
البَعث والتُرَاث
يُشكِّل التراث مكوّناً أساسياً للشخصية العربية الحضارية، كونه يمثِّل عمق الأمة في تاريخها، وفي أصالتها، ومستواها الابداعي الذي أغنَت به الحضارة الانسانية. وبين موقف رافض للتراث، كونه ماضياً، وموقف مُقَدِّس له، استطاع البعث أن يكوِّن موقفاً جديداً متميِّزاً من التراث من خلال منهجه العلمي الجديد.
التراث والنهضة :
من هنا جاء اهتمام البعث بالتراث، فاعتبره مكوناً أساسياً في فكره. فالتراث يشكِّل تحرَّر في فكر البعث نحو افاق جديدة وانتقال من كونه الناتج الفكري المتبقي من المرحلة التاريخية السابقة، معزولاً عن حياة العرب ونضالهم من أجل وحدتهم وحريتهم ورفاهيتهم، الى منظور جديد يراه البعث في كونه حاجة اساسية لنهضة الامة لأسباب عدة، منها انه يشكِّل الصلة الحيَّة والفاعلة التي تربط الحاضر المطلوب النهوض به، بالماضي المجيد المطلوب بعثه.
فالتراث في منظور البعث ليس حلَّة تُرتَدى ثم بعد ذلك تُخلَع ويُرمى بها جانباً، ولا هو ترف يمكن الاستغناء عنه، بل هو سلسلة متكاملة من الاحداث والدروس والعِبَر، وهو منظومة القيم الرصينة والمُثل العليا التي تنشأ عليها الاجيال وتتربى وتتشكَّل بموجبها هويتها وشخصيتها. والأمة العربية لها ماضٍ حضاري، وتراث راقٍ هو أثمن شيء في صيرورتها الراهنة، وله أثر وتأثير في حاضرها وصناعة مستقبلها و تحقيق آمالها وتطلعاتها. ونظراً لغزارة هذا التراث فقد وصفه القائد المؤسس في كتاب البعث والتراث،ص91:
بأنَّه سجل عبقرية هذه الأمة، فالتراث في حياة الأمة ليس جزءاً من المعرفة أو مجرد بُعد تاريخي، بل هو حياة، فنحن أمام التراث كما نحن أمام مراحل حياتنا منذ ولادتنا وحتى اليوم. فالتراث امتداد لشخصيتنا في الماضي كما هو المستقبل. وهذا يعني أنَّ شخصيَّتنا لم تولد من عدم ، وانَّما هي جزء من هذا التراث، فتراث أيّ انسان كما هو تراث أي مجتمع، هو أساس شخصيَّته.
التراث والثقة بالنفس :
وللتراث أهمية وتأثيراً كبيرين في حياة الأمم، وعندما نتحدث عن التراث العربي، وهو تراث عظيم نعتز به ونتفاخر، فلأنه يمثل تأكيد على وجودنا، ودافع ملهم للإيمان بقدرات الامة، وبالتالي يكون مبعث للثقة بالنفس التي هي حاجة اساسية لخوض غمار تحديات الحاضر وللإنطلاق نحو المستقبل.
التراث والوحدة :
انَّ التراث كما يراه البعث هو حياة وثورة وحضارة ، وهو يشكِّل مكوناً رئيسياً لشخصية الأمة على مستوى الأفراد والجماعة. وعندما تعود الأمة لتراثها المشترَك بين ابنائها فعند ذلك يؤدي التراث فعله كعنصر موحِّد لها فيتعزز شعورها بأنَّها أمة عربية واحدة، وأنَّ لها رسالة لا يمكن أن ترضى عنها بديلاً. فالتراث العربي يعطي الأمة شعوراً بالوحدة، كما يعطيها حقّها في حمل الرسالة.
التراث والنضال :
ويرى حزب البعث ان تعزيز فهم التراث والوعي به، لا يتم اعتباطاً وانما من خلال فعل وجهد دؤوب، وليس بترديد الشعارات والأقوال وحسب. فالارتقاء الى قيم التراث ومُثُله وعمقه وغزارته يتطلب جهداً وسعياً حثيثاً يرقى لمستوى النضال ، لذا فبالنضال يرتقي الافراد ليدركوا مكامن التراث، لا أن يقعدوا فينتظروا قدومه اليهم!. ومن هنا فليس من المعقول أن نطلب من ابناء الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه كمناضلين.
واذا آمنَّا بأنَّ التراث لا يمكن أن يكون معزولاً عن نضال جماهير الأمة الراهن ، لانه يمثِّل الصلة الحيَّة للحاضر بالماضي، وكيما نستوعب التراث استيعاباً مُبدعاً، ولكي يؤدي دوره المأمول في نهضة الأمة فعلينا أن نرتفع به الى مستوى الثورة.
التراث والحداثة :
وبعد ذلك فالاهتمام بالتراث يؤدي دوره الحيوي في تأطير وتوجيه الحداثة التي يتطلع اليها البعث، فكما ان التراث جزء من عملية بلورة الهوية العربية ، فهو يسهم من جهة اخرى في اعادة بناء الذات المعاصرة ويحميها ويصونها من كثرة المتغيرات العالمية الوافدة ومخاطر فقدان البوصلة. لذا يساهم التراث في تعزيز الأساس الرُّوحي والكيان المعنوي للأمة، ويُشكِّل الملامح القومية لها ويوجهها الوجهة السليمة.
لقد تميَّز البعث عن غيره من الأحزاب والحركات العربية بالدعوة الى الموازنة بين الأصالة والمعاصرة، والسير لتحقيقهما عبر طريق الثورة والنضال. وبهذا ولأول مرة في تاريخ الأمة، تمكَّن البعث من تحرير الفكر العربي من قيود النظرة السلفية التي تجعل من الماضي قطب الحياة الذي لا يتحرك او يتطور، مخالفة بذلك قوانين التاريخ والتقدم.
كما تمكَّن البعث من انقاذ الفكر العربي من الضياع الذي اصاب بعض الحركات والتيارات التي تسم نفسها بالتقدمية، التي كانت تفهم الحداثة بأنَّها مجرد اقتباس ونقل حرفي لتقاليد الغرب او الشرق، وبالتالي تتطلع الى مستقبل لا جذور له في الماضي ولا الحاضر. فبالربط الجدلي الذي ربط به البعث بين التراث والرسالة، فقد اكسب قضية نهضة الأمة بعداً ثورياً ينطلق
من عدم اعتراف الأمة بواقعها المتردي، وبالتالي عدم تنازلها عن مكانتها ودورها المأمول بين الأمم الحيَّة. فالأمة لا تزال تمتلك المقومات والقدرات والكفاءة لاسترجاع تلك المكانة التاريخية التي فقدتها في ظروف خاصة، وعلى ذلك فالرسالة تأخذ معنى الاستعداد والتهيوء لممارسة الدور الذي يليق بها.
لقد أسَّس البعث معادلة التوازن بين الماضي والحاضر والمستقبل، فصاغ منظوره الحضاري ليجعل منه حركة ابداع عربية، ووضع التراث في قلب الثورة العربية، وبالتالي فقد نقَّى التراث من صفة الجمود ومن صبغة التقليد.
ومن هنا فالتراث كما يراه البعث، هو المُعبِّر عن انتماء الأمة الحضاري، وشاهد حيّ وفعَّال على أصالتها وحيويتها وجدارتها الانسانية، كأمة ساهمت في صنع التاريخ الانساني المشرق من جهة ، وهو الضوء الكاشف العملاق الذي ينير لها طريق الحاضر والمستقبل ليمنع ضياعها وفقدان هويتها وبوصلتها ، في خضم شتى انواع الغزو الثقافي والفكري الذي تتعرض له.
وهكذا ينظر البعث الى التراث باعتباره الموجِّه والمُحفِّز الذي يمد الأمة بكلّ مقوّمات الاعتزاز بالذات، وتأكيد الهوية والقيم السليمة، والتوجه الوجهة السليمة. كما أنَّه يعزِّز ثقتها بنفسها وقدراتها وامكاناتها، ويُثير في أبنائها الشعور بالمسؤولية التاريخية، ويلهمها روح النهضة، ويفتح أمامها آفاقاً واسعة وبعيدة للتجدد والابداع. ومن هنا فان التراث وإن كان ينطلق من الماضي الا انه أداة نهضة، وقاعدة اندفاع في الحاضر والمستقبل.
انَّ أيَّة أمة لا تستطيع أن تسير الى الأمام بخطى راسخة وشجاعة من دون أن تعي وتدرك مدى عمق جذورها الممتدة في تراثها، ودون ان تستنهض القيم والمثل العليا التي يفرزها ذلك التراث، ودون ان تربط ماضيها القريب والبعيد بحاضرها ومستقبلها. وفي ذلك يقول القائد المؤسس وهو يتحدث عن التراث في العدد7 من الثورة العربية ،ص131: اكتشفنا وجوده وضرورته أولاً، واكتشفنا قيمته الذاتية، ومعناه وطبيعته واتجاهه….وأين اكتشفنا التراث في البدء؟ لم نرجع الى الكتب، بل نظرنا حولنا وفي أنفسنا، ووجدنا أنَّ تراثنا حيّ في نفوس الشعب، وهذا ما حدا بنا الى أن نقرأ التراث قراءة جديدة. وقد حاول أعداء الأمة أن يقتحموا فكر وذهن الانسان العربي، والانحراف به من خلال ابقاء القديم على قديمه، وأن يكرِّسوا المثل السيء (ليس في الامكان أبدع مما كان)!، وهو منطق الضعف والعجز وقصر النظر.
وبعد ذلك يبقى التراث العربي هو تراث عظيم نعتزّ به ونفتخر لا لمجرد الاعتزاز والتفاخر، ولكن لأنَّ وجوده هو تأكيد لوجودنا، وبقدر ما يكون تحدياً لواقعنا المتردي، فهو يشحذ الهمم نحو التغيير وحثّ الخطى باتجاه الثورة والتحرر والتقدم.
والخلاصة فالتراث هو شيء قائم في ذات الأمة، ولكنَّه يبقى جامد وأصمّ،
وبلا معنى، اذا لم نرتقِ اليه في نضالنا، ونستند عليه في المراحل الثورية التي لا بد منها لنهوض أي شعب.
على أنَّ الاهتمام بالتراث لا يعني مجرد التغنِّي بالأمجاد الماضية، والتفاخر بها، وانَّما يعني البحث عن الجذور الحقيقية للشخصية العربية وتبني القيم العليا والمثل النبيلة، واستعادة الأمة لثقتها بنفسها، واستنهاض قدراتها على البناء والنهوض والتطور الحضاري الذي يجعلها في مصاف الشعوب والأمم المتطورة.