القيــادة القوميـة – مكتب الثقافة والاعلام القومي
إشراقات نيّرة من خطاب الرفيق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي عزة إبراهيم حفظه الله ورعاه ( 3 ) المراجعة التحليلية للمسيرة ومستقبل العمل العربي المشترك
أحمد أبو داود
تتميز الاحزاب المبدئية الرسالية بقدرتها على تحليل مسيرتها بكل شجاعة وجرأة للاستفادة من الدروس والعبر التي افرزتها تجارب الماضي من جهة ، وتحليل الواقع بطريقة موضوعية وعقلانية للانطلاق نحو المستقبل بخطى واثقة في إداء يرقى الى مستوى التحديات التي تواجهها الامة العربية على كافة الأصعدة .
وفي واحدة من تلك الوقفات الهامة التي تمثل احدى المراجعات لتحليل المسيرة السابقة للحزب ، والذي تعد ممارسة النقد والنقد الذاتي واحدة من أهم وأصدق وسائله، تناول الرفيق الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي عزة إبراهيم حفظه الله ورعاه في خطابه في الذكرى الثانية والسبعين لتأسيس الحزب تحليل تجربة الحزب مستنداً الى احد اعمدة فكر البعث وقيمه الراسخة في نظامه الداخلي، وهي ممارسة الديمقراطية داخل التنظيم وعلى طول مسيرته الطويلة بدأً من تأسيسه الذي لم ينطلق الا عبر واحدة من اهم الممارسات الديمقراطية رسوخاً وهي انعقاد مؤتمر تأسيسي له . حيث وضع ذلك المؤتمر الأسس والأركان التي قام عليها البعث، كما حدد المبادئ والاهداف التي شكلت العقيدة البعثية الوحدوية التحررية الاشتراكية . وقد فصل الامين العام في خطابه قواعد الممارسة الديمقراطية للبعث بما يلي :
– اعتماد قواعد الديمقراطية المركزية في العمل وابداء الرأي واتخاذ القرارات
– قيام بنيان البعث على أسس القيادة الجماعية في كل مستويات القيادة ، مع خضوع رأي الأقلية لرأي الاغلبية وخضوع القيادات الدنيا للقيادات العليا.
– ممارسة الاعضاء لحقوقهم بكل حرية وايجابية من خلال ضمان انسيابية انتقال القناعات والآراء من قواعد الحزب وجماهيره الى قياداته العليا كالنسغ الصاعد ، ثم انتقالها كقرارات من قياداته العليا الى قواعده وجماهيره، فتشارك بذلك قواعد الحزب مشاركة فعالة في صنع قراراته وبرامجه.
– قداسة احترام العلاقات الحزبية بين الرفاق، ورسوخ ممارستها في القول والفعل حتى في حالة الاختلاف في الراي.
– تجنب تعيين القيادات باستثناء الظروف القاهرة ، واعتماد انتخابها عبر مؤتمرات نظامية كأسلوب سائد وأساسي .
– الممارسة الحية والواعية للنقد الايجابي الهادف البناء والنقد الذاتي الصادق المخلص وبموجب صلاحيات متدرجة لقياداته ومؤسساته وكل اعضائه.
– والاهم هو ان الشعب لدى البعث هو صاحب السلطة المطلقة واليه ترجع الامور كلها في تقرير مصيره وتحقيق مستقبل الامة الواعد .
وانطلاقاً من هذه المبادئ الديمقراطية الراسخة طيلة مسيرة الحزب ، وخاصة في اعتماد المناقشات الحية والنقد والنقد الذاتي ، فقد كانت مسيرة البعث زاخرة بالوقفات التحليلية وعبر كل المراحل التي مر بها. حيث يتم نقد وتحليل المرحلة السابقة بكل موضوعية ، واستنباط الدروس والعبر والانطلاق نحو المستقبل بخطى واثقة وجديدة . وكانت هذه احدى اهم ضمانات ديمومة بقاء البعث كقوة عربية جبارة ، وطليعة شجاعة تتقدم جبهات نضال الأمة في كل مكان من الوطن العربي الكبير.
واستناداً الى هذا الارث الغزير من المراجعة الجادة للمسيرة والتحليل الموضوعي المتواصل للمراحل التي مر بها والقرارات التي اتخذها، ومواقفه المحلية والعربية والعالمية ، واستناداً الى اسس ” النقد الايجابي الهادف البناء والنقد الذاتي الصادق المخلص” التي اعتمدها البعث منذ تأسيسه، فقد انطلق الامين العام في خطابه التحليلي الجرئ ابتداءً من الماضي مروراً بالواقع ومستشرفاً متطلبات المستقبل.
ولقد تجسدت هذه الوقفة الموضوعية من خلال اعتماد الرفيق الامين العام على اربعة اعمدة اساسية شكلت بمجموعها تفاعلاً جدليّاً يكمّل بعضه بعضاً . فقد تضمن اوّلها وقفة تحليلية نقدية جريئة لبعض معالم مسيرة الحزب في المرحلة السابقة للاحتلال الامريكي الغاشم للعراق ، وتضمن الثاني الاقرار بالمواقف الوطنية والقومية الايجابية لبعض الدول العربية ، ثم طبيعة العلاقات العربية العربية في الوقت الراهن محدِّداً ما ينبغي ان تكون عليه ، واخيراً تحديد دقيق وموضوعي للتحديات المتجددة الراهنة التي تمر بها امتنا العربية، وما تستدعيه مواجهتها من اجل الولوج الى المستقبل بقدرات عربية جمعيّة فاعلة قادرة على الحفاظ على وجود الأمة وتحقيق أمنها و ضمان مستقبل اجيالها.
ولقد انطلق الأمين العام للحزب في هذه الوقفة التحليلية الشجاعة من موقع المسؤولية التاريخية التي تمثلها قيادته للحزب في هذه المرحلة الصعبة من حياة الأمة .
ففي مجال تحليله للمرحلة الراهنة التي تمر بها الامة العربية وماتموج بها من مخاطر ، أكّد على ضرورة الأخذ في الاعتبار معطيات الواقع والتحديات الجسيمة التي تواجهها الأمة في اغلب اقطارها وفي مقدمتها فلسطين الحبيبة. وما تتطلبه من حشد الجهود ” لأحباط صفقة القرن واحباط كل المشاريع التي تستهدف شعب فلسطين وأرضه المقدسة “.
واستمراراً في تحليله الموضوعي للواقع الخطير فقد اكّد على أن ” التحالف الاستراتيجي بين امريكا وايران واسرائيل لا زال قائماً، ولا زالت الى اليوم ايران متفضلة على اسرائيل وامريكا. ومن أهم انجازات وخدمات ايران لاسرائيل وامريكا ، إن أيران هي التي دفعت النظام العربي برمته للارتماء بحضن امريكا واسرائيل” مما يؤكد حتمية التصدي لهذا الخطر الجسيم، الذي لا يتم الا بتجاوز المرحلة السابقة وما رافقها من خلافات عربية و إزالة تأثيراتها السلبية على مستقبل الامة .
ومن جهة اخرى فقد تكامل هذا الموقف الواضح والحاسم للأمين العام للحزب ، مع تأكيده على مواقف بعض الدول العربية الوطنيةً و القوميةً وخاصة لنصرة فلسطين الحبيبة ودعم العراق اثناء دفاعه عن البوابة الشرقية للأمة العربية وتصديه للعدوان الايراني الغاشم خلال الثمانينات من القرن الماضي ، داعياً الى ضرورة العمل اليوم لتجاوز كل مخلفات الماضي من اجل تطوير العلاقة بين البعث والاقطار العربية من جهة و العلاقات بين الدول العربية نفسها وخاصة في مجلس التعاون لدول الخليج العربي .
ومن اجل تجاوز هذه الواقع نحو واقع جديد ينطوي على قدرات اكثر فاعلية في مواجهة متطلبات العصر الجديدة ، دعا الأمين العام في خطابِه قادة الخليج العربي الى التحسب لأسوأ الاحتمالات مشيراً الى أنه لا يوجد شيء ثابت في قوانين الصراع او التحالفات بين الأمم والشعوب. وأكد على ضرورة ضمان أمن الامة العربية واستقرارها الذي هو رهن بتجاوز الماضي للارتقاء الى مستوى التحديات الراهنة والانطلاق نحو مستقبل واعد .
ومن هنا جاءت دعوة الامين العام للحزب على ضرورة العمل المشترك لإعادة النظر بالسياسات والمواقف العربية السابقة وتوحيد جهود جميع الاطراف والتضامن لمواجهة كل اشكال التهديد التي تتعرض لها الأمة امنياً واقتصادياً ومجتمعياً وقيمياً ، والمتمثلة بالإرهاب و التطرف و الحروب الدموية التي عصفت بالمجتمع العربي، واستنزفت الموارد الاقتصادية والقدرات العسكرية ، ومواجهة التدخُّل السافر من ايران الذي يشكّل انتهاكاً للأمن القومي العربي ولميثاق الأمم المتحدة مهما اختلفت الذرائع والحجج.
ولتحقيق ذلك فان الكثير ينتظر العرب حكومات واحزاب ومنظمات مجتمع مدني للتعامل بفاعلية مع قضايا وتحديات العصر والإرتقاء الى مستوى هذه التحديات والأزمات. وعليهم من أجل ذلك ترسيخ ثقافة التسامح والتعايش واحترام الأخر ونبذ الفلسفة الاقصائية والتفرد ، وترسيخ مبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ولأنه لا أمن حقيقي بدون الاستناد الى قاعدة تنموية قوية ، فان المطلوب السعي من أجل شراكة اقتصادية عربية توفر فرصاً حقيقية للتنمية والتطور لمواجهة اتساع الفقر والبطالة وتفشي ظاهرة الفساد والأمية التي تشكل تهديداً حقيقيّاً لمستقبل الامة. فضلا عن تبنّي سياسات اقتصادية فاعلة ومتطورة للإنفتاح على الأنشطة الإقتصادية الدولية والاستثمار بما يخدم المصالح المتبادلة بين الأمم والشعوب. كما وينبغي الاهتمام بتطوير المشاريع الزراعية لضمان الامن الغذائي العربي وتبني استراتيجية تكاملية عربية للاستثمار في الصناعات التي تعتمد على المواد الخام والثروات العربية بما يساعد في امتصاص البطالة وتطوير القدرات ورفع معدلات التجارة البينية بين الاقطار العربية، لكي تكون شريكا استراتيجيا قوياً وليس تابعاً ضعيفاً للدول الصناعية في العلاقات التجارية الدولية.
ولابد من توسيع التعاون والاستفادة من خبرة وطاقات بعض الاقطار العربية التي نجحت في تطوير قدراتها الاقتصادية والمالية والتجارية لتشكل قاعدة للتعاون العربي الاوسع ، وتوسيع آفاق العلاقات التجارية بينها وانشاء مناطق حرة ومدن صناعية وتوفير حرية انتقال الايدي العاملة العربية وحماية الكفاءات والقدرات العلمية، وتوفير الفرص للتعاون في مجال حماية الامن القومي العربي.
هذا هو ما دعا اليه الامين العام للحزب من اجل انبلاج فجر عربي جديد، في استشراف هادئ وشجاع للحلول الجذرية التي من شأنها النهوض بالواقع العربي الذي يعج بالكوارث والتحديات و قلب المعادلات وإفشال المخططات الخارجية العدوانية التي تستهدف الامة في الصميم.