أيام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر .. معركة ( تقوربا ) البطولية .. وأثرها في تلاحم نضال أبناء العروبة
القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي
يزخر تاريخنا العربي المعاصر بصفحات كثيرة مشرقة ومشرفة، فعلى الرغم من أن هناك أحداثاً وملاحم جرت في بقاع معينة من الوطن العربي، إلا أن اشعاعها امتد ليضيء لنا الطريق على امتداد الوطن الكبير ، إما لأنها شكلت دفاعا قوياً عن وجود ومصالح ومستقبل الامة ، او لتأثير نتائجها الحاسمة وانعكاساتها التي ادت الى حماية المصلحة القومية وتعميق التلاحم العربي. فصارت تلك الاحداث معالم شامخة في تاريخنا العربي المعاصر ينبغي ان نتمثلها الان ونستلهم منها الدروس والقيم ، ونتزود من تفصيلات مجرياتها بشحنات من العزم تجدد فينا روح الاقدام في معاركنا الراهنة ضد اعداء الامة من قوى الشر والعدوان التي تستهدف وجود الامة وكينونتها وهويتها في الصميم في فلسطين وسوريا والعراق واليمن والخليج العربي وليبيا ، كما وتجدد فينا الثقة والصبر والمطاولة في سعينا لحماية مصالح الامة وخياراتها ودورها الرسالي الانساني ..
يسلط برنامج ” ايام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر” الضوء على هذه الاحداث ، ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في التلاحم النضالي بين ابناء العروبة في عموم وطنهم الكبير .
من هذه الايام المشرقة هي معركة (تقوربا) التي وقعت احداثها في مثل هذه الايام من العام 1964م في ارتريا بين الاستعمار الاثيوبي وثوار ارتريا ، حيث كانت نتيجة صمود الثوار وانتصارهم فيها
عاملا مهما في مد الصلات والتلاحم النضالي بين الكفاح المسلح الارتري من اجل الحرية ، وبين نضال ابناء الامة العربية على امتداد الوطن من المحيط الى الخليج .
جرت هذه المعركة في منطقة( تقوربا) الواقعة في غرب ارتريا ، وهي اول معركة بين الجيش الاثيوبي وبين الثوار الارتريين بعد ان قررت الامبراطورية الاثيوبية الاستعمارية الانتقال الى استخدام آلة الجيش في مواجهة الثورة الارترية نتيجة عجز قوات البوليس (الكوماندوس) في التصدي لعمليات الثوار الذين خاضوا عشر معارك ناجحة في الريف والمدن الارترية.
اختارت القوات الاثيوبية افضل وحداتها تسليحا وتدريبا للمواجهة حيث استقدمت كتيبة من قواتها التي كانت في يوغندا والتي اكتسبت خبرة واسعة في قمع الثورات الافريقية، بهدف القضاء على الثورة وهي في مهدها . وكانت قد مضت ثلاث سنوات على ميلاد جبهة التحرير الارترية و انطلاق الكفاح المسلح في الاول من ايلول عام 1961. وقد اختارت منطقة غرب ارتريا الذي يشكل حضن الثورة كمسرح للعمليات العسكرية لكي لا تمتد الثورة الى باقي البلاد من جهة، وبهدف خلق الرعب في المنطقة الحاضنة للثورة من جهة اخرى . ووعدت جيشها بالجوائز والمكافآت ومنتهم بالانتصار السهل على ثوار قليلي العدد والذين لايملكون اسلحة مكافئة.
هاجمت قوات الاحتلال الاثيوبي الثوار وهي في غاية الغرور في صبيحة 15/3/1964م ولكنها ووجهت بما لم يكن في حسبانها فقد تصدى لها رجال اشداء مسلحون بالايمان بعدالة قضيتهم وواثقون بنصر الله وقدرة الشعب في الصمود . وقد استمرت المعركة من الصباح الباكر وحتى دخول الليل حيث اظهر فيها مقاتلو الثورة الوليدة صمودا منقطع النظير حتى نفدت الذخيرة فقاتل بعضهم بالسلاح الابيض.
انتصر الثوار في المعركة نصراً حاسماً ، وكسروا غرور جيش الاحتلال ، الذي انسحب من ارض المعركة مهزوماً بعد ان تكبد اعداداً هائلة من القتلى والجرحى .
لقد كانت معركة تقوربا فاتحة سيئة للجيش الاستعماري وهزيمة مدوية في اول معركة له وهو متفوق في العدد والتسليح على مقاتلي الثورة الارترية.
وحين انجلى غبار تلك المعركة كانت النتيجة على الارض هي 84 قتيلا من جيش الاحتلال الاثيوبي واضعافهم من الجرحى ، و 18 شهيدا في صفوف جيش التحرير الارتري ورغم ان هذه التضحية كانت تعد باهظة جدا بالنسبة لثورة مازالت طرية العود ، الا ان نتيجتها احدثت انعكاسات مهمة جدا وتركت آثاراً عميقة على طرفي الصراع . فعلى صعيد المستعمر كسرت هذه المعركة المشرفة غرور الجيش الاثيوبي وولدت الشك في صدق مصادر معلوماته عن الثورة. كما حطمت معنويات قوات الاستعمار وقتلت احلامها بوأد الثورة في مهدها.
اما على صعيد الثورة ، فقد رفعت معنويات الثوار وعززت الثقة في قدرتهم على مواجهة الاحتلال ، ورسخت عزمهم على المطالبة بالحرية والاستقلال. كما كان لاقدام العدو على تعليق جثامين شهداء المعركة في ساحات المدن ، الى رفع وتيرة تذمر الشعب الارتري ودفع العديد من الشباب للاتحاق بصفوف الثورة. لقد كسرت ذلك طوق العزلة والتعتيم الاعلامي الذي فرضه الاستعمار فخرجت اصداء انتصار الثورة الى عموم الوطن العربي ومنه الى العالم أجمع .
لقد كان من نتائج هذا الانتصار الباسل وصول صوت الثورة الى اشاقائها في الوطن العربي ، وتعميق صلاتها وتلاحمها بالأمة العربية ، وبدء تدفق التعاون العربي مع نضال الشعب الإرتيري، وتأييد مطلبه بالحرية والاستقلال . ذلك النضال الذي كان قد اخذ بعده القومي بعد تسلم البعث السلطة في كل من سوريا والعراق في العام 1963م ، كما تلاحم مع نضال الشعب الفلسطيني بعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وقيام ثورة 17 تموز في العراق .
وعلى قاعدة هذا الوعي والموقف العربي المساند لمطالب الشعب الإرتيري في الحرية والاستقلال، تعمقت علاقة الثورة الإرتيرية بانتمائها للامة العربية ، حيث قرر اول مؤتمر لجبهة التحرير الإرتيرية في العام 1971م ان الثورة الإرتيرية جزء لا يتجزأ من حركة الثورة العربية.
ونتيجة لهذا التحول الكبير الذي احدثه صمود ثوار ارتريا وانتصارهم في معركة (تقوربا) في مواجهة المستعمر ، اتخذت جبهة التحرير الارترية الخامس عشر من مارس عيدا لجيش التحرير الإرتيري ما يزال يحتفل به ابناء الشعب الإرتيري .
لقد كانت هزيمة جيش اثيوبيا الاستعماري على يد ابطال جبهة التحرير الإرتيرية في تلك المعركة المشرفة ، بداية لسلسلة من الانتصارات في منازلة استمرت 27 عاما ، ادت بتراكمها الى انهيار تام لجيش الاحتلال الاثيوبي وخروجه مهزوما من ارتريا في 24/5/1991م .
كان ذلك انتصاراً اعاده في ابهى صوره ابناء الامة العربية الابطال مجددا بعد عشرين عاما على ارض الرافدين ، عندما كبدت فصائل المقاومة العراقية الباسلة قوات الاحتلال الاميركي خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، واجبرتها على الهروب من ارض العراق مخذولة مهزومة تحت ضرباتها الموجعة.
ان مرور الذكرى (54) لهذه المعركة ليؤكد لشباب الامة اليوم ان فعل الرجال القابضين على السلاح هو اهم من فعل السلاح ذاته. وان الحق غالب مهما تكالبت عليه قوى الشر ، وان سلاح العدو الغاصب لحقوقنا ضعيف امام نزوعنا نحو التحرر واستعدادنا للتضحية ، وان شباب امتنا في ميادين المواجهة في وطننا العربي هم صناع الغد المشرق ، وان الحياة الحقيقية لامتنا العربية توجد حيث يحمل ابناؤها السلاح مدافعين عن بقائها وخياراتها.
فكل عام وأبناء الأمة العربية في خندق البطولة صامدون.
وكل عام ومناضلو البعث ببنادق الحق ممسكون
ونحو النصر المؤكد بثقة يخطون.
مكتب الثقافة والإعلام القومي
نيسان / ٢٠١٨