الحياد الإيجابي وعدم الانحياز في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي

بسم الله الرحمن الرحيم

  برنامج / كتاب الشهر

للكتاب والقراءة أهمية عظمى في حياة الأمم والشعوب، وفي عالمنا المعاصر حيث تحتدم التحديات والمتغيرات في مختلف الاصعدة والمجالات ، اصبحت المعرفة احد اهم الاسلحة التي تتسلح بها الشعوب في كفاحها حتى اضحت حاجة جوهرية لا غنى عنها من اجل البقاء وتحقيق التطور والازدهار.

وفي ظل عمليات التجهيل المنَظَم والمتَعَمَّد للاجيال الصاعدة من الشباب في وطننا العربي يحتل هذا الامر اهمية استثنائية. وتساهم العديد من الاصدارات العربية الحديثة في القاء الضوء على القضايا الملحة في وطننا العربي، وتنوير الرأي العام ونخبه الفكرية والثقافية، وتعميق الوعي لديها، فتشكل منارات هادية تضئ الطريق امام ابناء الامة ولا سيما اجيالها الصاعدة ، لتتزود منها بالمعرفة اللازمة لمواصلة الطريق في دفاعها عن خيارات الامة وحقها في الحياة  ومواصلة رسالتها الخالدة بين الامم.

يسلط برنامج  ” كتاب الشهر ” الضوء على هذه الكتب ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في تعميق الوعي فيقدم خلاصات للنصوص الجديدة  في مجالات الثقافة القومية والفكر العربي المعاصر والتحديات الراهنة في مختلف المجالات ، تشترط الرصانة الموضوعية ،وتضمن  الفائدة العامة  لجميع القراء والمتصفحين . ولإثراء  النص وتعميق مضامينه ، يشرع  كتاب الشهر نوافذ للحوار العلمي ، وتبادل وجهات النظر . كتاب هذا الشهر يحمل عنوان : عدم الإنحياز والحياد الايجابي في فكر حزب  البعث العربي الاشتراكي .[1]

الحياد الايجابي وعدم الانحياز

في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي

تمهيد :

في ظل الوضع الدولي الراهن وما يشهده من تطورات خطيرة متسارعة تشير الى اننا نعيش اعتاب عالم جديد آخذ في التشكُّل في كافة مجالاته الامنية والاقتصادية والثقافية ، نتيجة بروز آليات جديدة للنفوذ والهيمنة افرزتها التطورات الالكترونية والفضائية  والبايولوجية و تقنيات الذكاء الاصطناعي وغيرها التي من المتوقع ان تحاول السيطرة على كافة وسائل الانتاج وتغيّر اساليب الحياة الانسانية نحو انماط جديدة غير مسبوقة.

ان كل ذلك يضع النظم العالمية بما فيها نظام العولمة الاقتصادية والعسكرية والثقافية وكذلك نظام القطب الواحد الذي تتحكم الولايات المتحدة الامريكية بقيادته في حالة تغير حتمي. مضافاَ الى ذلك بروز الصين وروسيا والهند والبرازيل بجانب الاتحاد الأوربي كقوى فاعلة في المعادلة الدولية . وفي ظل هذه المتغيرات المتسارعة وما تفرزه من تحديات هائلة بما فيها بروز اجيال جديدة من الحروب العالمية،  فانه من الضروري قيام القوى التحررية في الامة العربية  ببلورة استراتيجيات جديدة لضمان تحقيق مصالح الأمة العليا وحفظ امنها القومي وتنمية مواردها وتعزيز استقلالها .

ولكي لا تنطلق هذه الاستراتيجيات من فراغ وانما تكون مستندة الى تجارب ناجحة وإرث فكري ونضالي راسخ ، فلا بد من دراسة فكر حزب البعث العربي الاشتراكي في هذا المجال والقاء الضوء على تجاربه ومفهومه للمبادئ وللاستراتيجيات الناجحة التي اعتمدها وذلك للافادة منها في بلورة استراتيجيات جديدة لمواجهة التحديات الراهنة والمستقبلية.

يأتي كتاب (عدم الانحياز في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي) كإطلالة فكرية على استراتيجية هامة اعتمدتها الاحزاب التحررية و مجموعة من الدول التي تقع خارج دائرة القوى العظمى التي كانت تقود العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهما الولايات المتحدة الامريكية التي تقود منظومة الدول الرأسمالية؛ والاتحاد السوفياتي، كزعيم  لمنظومة الدول الاشتراكية. وقد أحرز كل منهما سبقاً في بناء تحالفات و صداقات بما ترتبه تلك العلاقات من الالتحاق والتبعية ومصادرة القرار السيادي.

فلقد وجدت الاحزاب التحررية وعدد من الدول مثل الهند ومصر ويوغوسلافيا ان تبعيتها لاحد القطبين يهدد استقلالها وحرية ارادة شعوبها ، فاعتمدت مبدأ (الحياد الايجابي) و  (عدم الانحياز) فنشأت بموجب ذلك تجربة دولية جديدة، كان لها أثر كبير في تعزيز الاستقلال السياسي وصيانة الارادة الوطنية لشعوب العالم الثالث  ونبذ سياسات التبعية والخنوع لهيمنة تلك الاقطاب .

ورغم ان الحقبة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي وبروز نظام القطب الواحد وهو الولايات المتحدة الامريكية  قد شهدت غياب فكرة المنظومة الشرقية والغربية التي سادت في القرن العشرين و انتهت مع انتهاء الاتحاد السوفيتي وانفراط حلف وارشو ، حيث تراجع مبدأ عدم الانحياز والحياد الايجابي لانه لم يعد لمفهوم الحياد معنى فالحياد يقتضي وجود أكثر من قطب دولي، لكن الواقع الراهن يشهد ظهور تحالفات جديدة  تأخذ اشكالاً مختلفة يجري العمل عليها بخطى متسارعة.

لذا  فان أساس مبدأ عدم الانحياز والحياد الايجابي الذي اعتمده الحزب، يعد استراتيجية هامة ومتجددة وان تغيرت المسميات والاقطاب الان، ومن المهم تفعيلها والاستفادة منها لتأمين حاضرنا ومستقبل اجيالنا .

ففي ظل الصراع الدائر اليوم والذي يأخذ سمات متسارعة في الحجم وفي النوع تتقدمها السمة الاقتصادية والتقنيات العالية ، والذي يسعى الى الخروج من اطار القطبية الواحدة الى نظام متعدد الاقطاب ، لابد للأمة العربية وقواها الحية من التعامل مع هذا الصراع وتلك المتغيرات استناداً الى مصالحها القومية العليا، وهنا تكمن اهمية البحث في تجارب الحزب في هذا المجال كجزء من سعي الامة الى بلورة تصور جديد لمبادئ عدم الانحياز والحياد الايجابي . وإلى أن يتحول الأمل المفترض في بناء نظام دولي متوازن إلى واقع ملموس ، يضع مكتب الثقافة والإعلام القومي، محتوى هذا الكتاب بين أيدي القراء ، للاستفادة منه في رسم معالم المستقبل العربي.

حيث تسلط هذه الحلقة الضوء على رؤية حزب البعث العربي الاشتراكي لتلك المبادئ والتي حققت نجاحاً كبيراً في حينها على طريق تحقيق استقلال القرار السياسي للأمة العربية ولشعوب العالم الثالث ونضالها من اجل حريتها ونهضتها بعيداً عن هيمنة الاقطاب الدولية والقوى العظمى. وذلك بهدف توفيرها الى الاجيال الصاعدة  و الاستفادة من تلك التجارب الناجحة في تطوير استراتيجيات جديدة بما ينسجم مع العالم اليوم  وما يشهده من تحديات النظام الدولي السائد حالياً و احتمالات صعود اقطاب جديدة فيه .

يتناول البحث دراسة جانب من فكر حزب البعث العربي الاشتراكي لما بعد الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفيتي كقوة نووية للردع والتوازن بعد انتصار الحلفاء وتقسيم العالم وظهور ما عرف بالحرب الباردة بين الشرق والغرب . ونتيجة الى استمرار معاناة الامة العربية اضافة الى الشعوب في افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية من الاستعمار العسكري والاستعمار الحديث، فقد توافقت الارادات والقيادات في الهند ومصر ويوغسلافيا على الدعوة لتطوير حركة النضال الافرو-آسيوي الى مؤتمر باندونغ ١٩٥٥م للحياد الإيجابي ولوضع أسس المواجهة مع الاستعمار لتحرير الشعوب والبلدان من القواعد والاحلاف العسكرية وإعلان الاستقلال. ثم جاء المؤتمر الأول لحركة عدم الانحياز في بلغراد عام ١٩٥٩م ثم القاهرة ١٩٦٤م واستمرت الحركة حتى يومنا هذا رغم انها فقدت فاعليتها وسبب ظهورها بعد تفكك الاتحاد السوفيتي عام ١٩٩١م.

لذا اهتم البحث بوصفه دراسة للفكر السياسي المعاصر لحزب البعث العربي الاشتراكي من خلال تحليل مضمون مقالات وأحاديث المفكر القائد المؤسس الرفيق ميشيل عفلق خلال الخمسينات والستينات وجانب من السبعينات والثمانيات، من اجل تنوير الاجيال بجوهر مواقف وفكر حزب البعث العربي الاشتراكي خلال الحرب الباردة والصراع الدولي بين الكتلة الاشتراكية والكتلة الرأسمالية وحرص الحزب على اتباع نهج مستقل كتعبير عن ارادة الأمة المستقلة واعطاء مصلحتها الاولوية المطلقة.

ان تناول هذا الموضوع يأتي توثيقاً لجانب من التطور التاريخي الفكري للحزب ونشره بين الجيل العربي الجديد من الشباب الذي لم تسمح له الظروف بالاطلاع على تاريخ الفكر السياسي لحزب البعث العربي الاشتراكي.

 المقدمة

يصعب الفصل بين الاتجاهات والمضامين السياسية لحزب البعث العربي الاشتراكي  ، الخاصة ببناء المجتمع العربي الإشتراكي الديمقراطي الموحد، وبين فلسفة حركة عدم الإنحياز التي حددت الملامح الأساسية لمواجهة ظاهرة الإستعمار والاحتلال العسكري وتحقيق الاستقلال الوطني للأمم والدول وضمان الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والإعتراف بالحقوق الوطنية والقومية والإنسانية للشعوب والمساهمة في الجهود العالمية المبذولة لتحقيق التوازن الدولي، لتجنيب العالم مخاطر الحروب والدمار النووي، عبر بناء عالم يسوده السلم والأمن والوفاق والتعاون.

إن البحث في موضوع: عدم الإنحياز في فكر حزب البعث العربي الاشتراكي، يعني البحث في جوهر القضية التي ناضلت من أجلها الأحزاب والحركات السياسية ومجموعة واسعة من المفكرين والمثقفين في آسيا وإفريقا وامريكا اللاتينية، عبر ظروف معقدة، كما عاشها العالم العربي عبر المنظمات والأحزاب والنقابات والقيادات السياسية للدول بعد الحرب العالمية الثانية وحتى عصرنا الراهن. لقد تفاعلت الأيدولوجية العربية التحررية الديمقراطية بجانب الأيديولوجية الهندية التي جسدت الكفاح السلمي من اجل الاستقلال عبر التوافق مع النظرية الشيوعية اليوغسلافية لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية بين العالمين الاشتراكي والرأسمالي لمواجهة الازمات ومنع الحروب، مما أسس لمجموعة عوامل جوهرية ومبادئ كبرى في بناء فلسفة عدم الإنحياز. ولقد تميز الدور العربي البناء والايجابي في حركة عدم الإنحياز، ببعدين: أيدولوجي واستراتيجي1.

فمن الناحية الأيدولوجية، ساد الإعتقاد بخطورة سياسة المعسكرات والاحلاف الدولية والإقليمية والإنقسامات العقائدية والأيديولوجية في العالم، التي قادت العالم بعد الحرب الكونية الثانية الى تكريس ظاهرة الحرب الباردة بين الكتلة الشرقية الاشتراكية والكتلة الغربية الرأسمالية. لذا عبرت سياسة وأفكار حركة عدم الانحياز عن تقديم الحل والبديل الجديد والفريد أمام شعوب ودول العالم الثالث، لكي تمارس دوراً إيجابياً على صعيد العلاقات الدولية في بناء السلام، كما عبر مفهوم الحياد الإيجابي عن موقف حضاري وانساني عندما رفع شعار:“لا شرقية ولا غربية” لضمان السلم والاستقرار والتنمية في العالم.

ان الوقوف على صعيد الايمان بتطور العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول والتعايش بين الشعوب ضمن إطار التباين بين الأحزاب والمنظمات والتنوع القومي والديني في إطار الدولة الوطنية الواحدة، قد عبر عن جوهر مفهوم الحياد الإيجابي، الذي يعني: التحرر من هيمنة القوى الكبرى، كما استهدف، منع تدخلها في الشؤون السيادية للدول النامية وبما يشوه القيم الحضارية الخاصة بكل شعب.

أما من الناحية الإستراتيجية، فإن العناصر الجيوسياسية للعالم العربي والمتمثلة في الممرات والسواحل البحرية الحيوية للأمن والتجارة الدولية، إضافة لوجود ثروات مادية طبيعية هامة، كالبترول والغاز والمعادن الفلزية واللافلزية، والقدرة على توسيع الإنتاج الزراعي والصناعي. كلها عوامل جوهرية دفعت الدول الصناعية الرأسمالية الكبرى للإستحواذ على مجالات للنفوذ العسكري والاقتصادي والسياسي. مما جعل فلسفة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي قوة معنوية خاصة للشعوب في النضال ضد الإستراتيجيات الإمبريالية، عبر العمل على تحرير الإنسان والثروات المادية من سيطرة الشركات وقوى الإحتكار الرأسمالي.

لقد كان للمفكر ميشيل عفلق آراء وأفكار سياسية جوهرية، أسهمت في بلورة قضايا عدم الإنحياز، وهذا ما دفع الباحث لدراسة تطور هذه الأفكار عبر تصنيف ودراسة وتحليل عناصرها ثم بناء الاستنتاجات العلمية. ولتحقيق هذا الهدف استخدمنا منهج تحليل المضمون الكيفي لدراسة عدد من النصوص والأحاديث السياسية للمفكر ميشيل عفلق، حيث صنفت أبرز موضوعاتها وفق الآتي:

قواعد السياسة الخارجية العربية، مفهوم الحياد الإيجابي ثم المباديء الجديدة للعلاقات الدولية. نأمل بعد هذه المقدمة، أن يستطيع هذا الجهد المتواضع، النجاح في إلقاء الضوء على جانب حيوي من فكر البعث، الخاص بدور الأمة العربية، وتأثيرها الإيجابي في الحياة الدولية المعاصرة نحو عالم يسوده السلم والأمن والوفاق والتنمية المستدامة.

  • قواعد السياسة الخارجية العربية

اختلفت نظرة حزب البعث في السياسة الخارجية عن “نظرة النظم والأحزاب ذات الطبيعة الإنتهازية والإرتجالية، التي تؤدي للتناقض والغموض والتذبذب الدائم، وتسمح بتسخير السياسة القومية للأغراض والمصالح الشخصية”2. كما تميزت سياسة حزب البعث العربي الاشتراكي عن سياسة الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي التي انطلقت من “نقطة مذهبية مصطنعة، هي خارج دائرة الأمة العربية وجو روحها ومصلحتها وظروفها”3، فحزب البعث العربي  الاشتراكي يستمد نظريته السياسية ومواقفه المبدأية من أيدولوجية تحررية حضارية خاصة، تتصل بمبادئه العربية الإنسانية، هذه السياسة ترتكز على القومية العربية، أي “تعمل بوحي من مصلحة الأمة العربية وحاجتها ورسالتها الإنسانية”4.

لقد جاءت مواقف حزب البعث العربي في السياسة الخارجية تعبيراً عن روح الأمة العربية وإرادتها في مقاومة الإستعمار، عربيا ودوليا، وهذا يعني: “الدفاع عن حرية الشعب العربي وجميع الشعوب المُستعمرة”5. لقد عارض المُفكر ميشيل عفلق “السياسة الواقعية” للحكام والأحزاب المؤدية لمهادنة الإستعمار، وندد بمواقف الأحزاب الشيوعية العربية التي تنسجم مع التوسع والهيمنة الإستعمارية، بما يتلاءم مع المصالح الدولية للاتحاد السوفيتي. لذا قدم البعث بديلا سياسياً يرى: “أن مصلحة الشعوب هي في أن يدافع كل شعب عن حريته واستقلاله، وأن يقوم بين الشعوب المتنافسة في سبيل حريتها تساند وتعاون حر، فليس ما يثبت إن كل دفاع عن مصالح الإتحاد السوفييتي”6، “وكل تقوية له يعودان حتما بالنفع على حرية الشعوب”7. لأن السياسة السوفييتية تخضع للمصالح وللأهداف الرسمية للدولة، التي لا تنسجم بالضرورة مع مشكلات الشعوب التي تناضل ضد الإستعمار.

لقد نظر البعث إلى سياسة الصراع بين المعسكرات والقوى الكبرى “نظرة استقلال وحياد”8، مؤكداً على رفض سياسة الإنحياز إلى حد الطرفين، أي: رفض سياسة تقسيم العالم إلى كتلتين متصارعتين، وطالب بالعمل على “فسح المجال لتعايش الشعوب ضمن الأنظمة المختلفة الملائمة لحاجات وميزات كل منها”9. لذا تبدو سياسة الحياد الإيجابي في فكر الحزب مرتبطة بالموقف الأيدولوجي التحرري، فهو: “يؤمن باتجاه ثالث فوق الإتجاهين البارزين في هذا العصر”10، يتمثل بسياسة الحياد، لأن مصلحة البلدان العربية لا تكمن بالإنحياز إلى جانب إحدى الكتلتين إو دولها.

لذا يفترض أن تكون السياسة الخارجية للدول العربية “سياسة حياد في النزاع القائم بين الكتلتين العالميتين”11، أي التأكيد على رفض الإرتباط بمعاهدات مع الدول الإستعمارية، لأنها عدوة للحرية واستقلال ووحدة البلدان العربية. إن السياسة الخارجية العربية وهي تعبر عن رفض الأحلاف فإنها تؤكد على عدم قبول الدول العربية للخضوع لإحدى المعسكرين. لأن التبعية تتناقض مع الايمان ببناء الإشتراكية والحرية والعمل لتحقيق الوحدة، للمساهمة بفعالية في “دعم الجهود المبذولة لضمان السلام والأمن الدولي”12.

فالسياسة الخارجية يجب أن تكون مستقلة لكي يتعزز استقلال البلاد، ولا يمكن أن تكون مستقلة إلا إذا التقت مع الأهداف القومية وبما ينسجم مع تحقيق المصالح العربية. وبالفعل تعززت خلال الخمسينات وتوسعت جبهة الشعوب المتحررة من الإستعمار والمؤمنة بتطبيق سياسة عدم الانحياز المُستقلة عن استراتيجيات الكتل العالمية.

لقد تطور موقف الإتحاد السوفييتي بعد تنامي حركة عدم الانحياز وكفاح الشعوب من اجل الاستقلال والحرية، نحو القبول بفكرة: “التعاون الحر الذي يحترم خصائص الشعوب وظروفها الخاصة، ومشروعية إقامتها أو وصولها إلى الإشتراكية بطرقها الخاصة”13. إن تغيير وانفتاح السياسة السوفييتية في عهد رئيس الوزراء نيكتا خروشوف، شجع الحكومات العربية للمضي في “سياسة الحياد الإيجابي والتعاون مع الحياد السوفييتي، لأن مصلحة الأمة العربية ومصلحة الإتحاد السوفييتي تلتقيان”

في النضال من أجل “التحرر السياسي والإقتصادي من الإستعمار الغربي”15، الذي يشكل وجوده في العالم العربي خطراً يهدد أمن وسلامة الاتحاد السوفييتي.

لذا فالدعم السوفييتي للقضايا العربية وتزويد عدد من الدول العربية بالسلاح وبالمعونات الإقتصادية كانت بهدف منع الاستعمار الغربي من استخدام العالم العربي كقاعدة لعملياته العسكرية، أو لتوسيع هيمنته الإقتصادية عبر السيطرة على الثروات العربية. “إن كل خطوة يخطوها الشعب العربي في طريق تحرره من قيود الإستعمار وتغلبه على أوضاعه المختلفة يجب أن يرافقها ارتفاع مقابل في المقاييس القومية”16، أي في العمل على“تعزيز الإستقلال من الداخل، بتقوية جيشنا وتصنيع بلادنا واستثمار ثروات أرضنا، وتوحيد أجزاء وطننا العربي على أسس سليمة تكفل لنا الدفاع عن وجودنا وقوميتنا”17.

لذا فان : “أن اندفاع العرب الطبيعي، المشروع في طريق التحرر والتقدم، يشكل بذاته خطراً كبيراً على مصالح الإستعمار”18، عربياً وعالمياً، لأن النضال العربي اتخذ ملامحه الواضحة في المطالبة بالحرية لجميع الشعوب. الشعب العربي يطالب إذاً: “بالتحرر من الإستعمار والإستثمار، ومعركته معركة شعب لا معركة طبقة.. في سبيل حياة حرة كريمة مبدعة. وشعبنا في هذا يلتقي مع اتجاه العصر، أي مع اتجاه الشعوب ومع التقدم البشري العام”19

  • مفهوم الحياد الإيجابي

يفترض من الدول الكبرى أن لا تنظر للعالم العربي باعتباره موقعاً استراتيجياً ومصدراً للثروات والاستثمارات والأسواق، لتبرير إخضاعه للمصالح الإمبريالية العسكرية والإقتصادية والسياسية، لأنها بذلك تنتزع من الامة العربية حقها في تقرير المصير والتمتع بالحرية والاستقلال، ورفض سياسات التجزئة وتكريس الصراعات. لذا فقد دعى حزب البعث العربي الاشتراكي المجتمع الدولي الى الأخذ بنظر الإعتبار: الأماني المشروعة للشعب العربي في نضاله من أجل الحرية والوحدة القومية والتقدم العلمي والكنولوجي والازدهار الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية، وهذا ما شجع الاقطار العربية على “مد يد الصداقة والتعاون إلى الشعوب التي تُظهر تفهما لقضاياه، ومناصرة فعالة له، مهما تكن الفروق المذهبية والعقائدية بينه وبين هذه الشعوب كبيرة”20.

“إن الذي يُبعد النفوذ السوفييتي عن البلاد العربية، هو ابتعاد الإستعمار وجلاءه التام عنها”21، وهذا ما يُمكن الأمة العربية من تحقيق أهدافها القومية في التحرر والوحدة والتنمية، لضمان سياسة مُستقلة ومحايدة على صعيد العلاقات الدولية. وبناء على ما تقدم: “آمن العرب بسياسة الحياد الإيجابي”22، وعدم الانحياز لأحدى الكتلتين، والاستمرار برفض التبعية لسياسة المعسكرات والاحلاف والتكتلات الدولية. ان تبني الدول العربية لسياسة الحياد الإيجابي، يعني: تبني سياسة “الإبتعاد عن الإنحياز إلى أحد الطرفين، ضمانة لحريتها ومساعدا لها على بلوغ طريقها المستقل”23.

لقد أدت هذه السياسة الخارجية إلى ظهور وحدة التضامن العربي الشعبي الواسع في مواجهة دولة الكيان الصهيوني والإمبريالية، وكل ما يهدد السلم والإستقرار العالمي، مما عمق الإحساس بين “جميع الشعوب المتعلقة بالسلم، بوحدة المصلحة والمصير مع الحركة العربية التحررية”24. لقد دفع هذا الإنسجام في الكفاح بين الأمة العربية والأمم والشعوب في بلدان العالم الثالث، لاهتمام دول مؤتمر اندونغ عام ١٩٥٥م، الذي تبنى الأهداف السامية للاستقلال والحرية “بالنضال العربي الذي حمل لواء تحقيق مباديء باندونغ في تحرير شعوب آسيا وأفريقيا وتوطيد دعائم السلم العالمي”25.

لقد عانت الأمة العربية من آثار الظلم والعدوان والحروب بفعل الهيمنة الإستعمارية “والتعصب العنصري والديني”26، مما أكسب النضال العربي تجربة انسانية عميقة، تحولت إلى عنصر أساسي في تكوين الثقافة السياسية للعالم العربي المعاصر، الذي يؤمن بأهمية التفاهم المتبادل والتعاون المشترك بين الشعوب، كبديل ضروري وحضاري عن سياسة التسلط الإمبريالي التي لا تنسجم مع الدور الحضاري العالمي للدول الاوربية، والتأسيس لحوار الحضارات والثقافات والانفتاح على شراكة اقتصادية سياسية بين الشعوب.

لقد طرح القائد المؤسس رؤيا خاصة حول أهمية تحقيق التوازن بين مركزي الإستقطاب، السوفيتي والامريكي في العالم، من خلال الاعتقاد بأن “ليس من مصلحة الأمة العربية في المرحلة الحاضرة من التاريخ أن ينهار أي من المعسكرين الرأسمالي أو الإشتراكي”27، لأن تراجع القوى الإشتراكية يعني: هيمنة الإمبريالية على العالم الثالث، اقتصادياً وسياسياً، وعلى العكس فان  انهيار الرأسمالية، سيؤدي الى سيادة الشيوعية على العالم، وما يحمله من مخاطر في انكار الحقوق القومية للشعوب ومصادرة للحريات الإنسانية. لهذه الأسباب، آمنت الدول العربية بسياسة الحياد الإيجابي، الذي لا يجد مبرراته في الأهداف السياسية والإقتصادية فحسب، بل ليعبر أيضاً عن موقف العالم العربي من مسألة الحرية في مجال العلاقة بين البلدان والأحزاب والمنظمات العربية، أو على صعيد الموقف من الصراع الدولي السياسي والأيدولوجي المؤثر على الدور الحضاري للأمة العربية.

لذا فإن مصلحة الأقطار العربية ترتكز على تنمية علاقات التوافق بين القوتين الكبيرتين، أي: “يتطور المعسكر الرأسمالي نحو الإشتراكية ويتطور المعسكر الإشتراكي نحو الحرية في داخل الإتحاد السوفييتي، ونحو الإعتراف بحقوق القوميات الأخرى في طريق تحقيقها للإشتراكية”28، لأن رفض انهيار إحدى القوتين يعني: رفض الحرب والتأكيد على أهمية السلم والأمن الدولي. هذا هو المعنى العميق للحياد الإيجابي الذي آمن به البعث، كما آمنت به شعوب آسيا وأفريقيا، والذي يعني: “التطلع إلى موقف جديد شامل، يرتفع فوق التضاد بين الإشتراكية والرأسمالية”29، ويتعمق في وضع حلول جذرية للمشكلات الإنسانية بما يضمن بناء العلاقات الدولية، على أساس من الإحترام المتبادل المبني على التعاون بين الشعوب والدول.

إن المستوى الجديد للعلاقات الدولية يتطلب “التحرر التام من كل نظرة مذهبية بغية إعادة النظر في جميع النظريات والعقائد لتوفير الشروط التي تسمح بالتخلص النهائي من منطق الصراع بين هذه النظريات بشكل واقعي سلمي”30، وهذا ما يؤكد الدور الإيجابي لمفهوم عدم الانحياز، عبر إسهامه في خلق التعايش وتعميق التعاون، ليس بين شعوب العالم الثالث المؤمنة بهذه السياسة، بل بين شعوب وبلدان الشرق والغرب، وعلى الرغم من اختلاف الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتنمية المصالح المشتركة.

إن سياسة الحياد وعدم الانحياز: “لا تعني رفض التعامل مع الغرب، بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء، تحقيقا لمصلحة شعوبها”31، لأن الحياد الإيجابي يتحمل مسؤولية “منع انفجار الصراع بين الديمقراطية بمعناها العميق الشامل وبين العدالة الإجتماعية في صورتها الإشتراكية الكاملة”32.

إن النظرة العربية الإنسانية للعالم يجسدها: “حرصهم على حريتهم واستقلالهم ووحدتهم”33 وفي ذات الوقت “ينظرون إلى مستقبل العالم من خلال نظرتهم إلى مستقبلهم”34، أي في: “عالم يكون العرب فيه أمة حرة مستقلة موحدة”35، أسوة ببقية الشعوب المقهورة. وهذا ممكن عند القضاء نهائياً على الإستعمار، وأحلافه العسكرية والإقتصادية والسياسية. لقد حققت البلدان العربية خطوات متباينة على طريق التقدم بعد الانتصار في الكفاح ضد الوجود الإستعماري في القرن العشرين، إنه انتصار للحرية، والذي جسد تطوراً في “الفكر والإقتصاد وفي التربية السياسية والتنظيم، وكلما ازددنا تقدما في تحررنا الخارجي علينا أن نقضي على التفاوت بين الطبقات”36، من أجل بناء المجتمع الديمقراطي للحرية والازدهار.

إن سياسة الحياد والإستقلال “ليست غاية في حد ذاتها بل هي سبيل لبلوغ أهداف سياسية”37، تتمثل في “الدعوة لإقرار سلام عالمي على أساس المساواة بين الشعوب”38، وبما يُمكن من إبعاد العالم العربي عن مخاطر الحروب وعن مناطق الصراع بين القوى الكبرى في محاولتها للهيمنة والاستحواذ على الثروات الإستراتيجية البترولية والمعدنية. “إن الفقر والحرب يهددان السلم والرخاء العالميين”39، بفعل عدم قدرة الشرق والغرب على تقديم حلول جذرية للمشاكل والتحديات الرئيسية الدولية والتي تتطلب:

  • توفير مستوى لائق من المعيشة لجميع البشر؛
  • توفير الحرية لجميع الشعوب وتمكينها من تحقيق وحدتها الوطنية؛
  • منع الحروب؛

إن تجمع الأحزاب الإشتراكية المناهضة للإستعمار مع حركات التحرر الممثلة للشعوب المُستقلة حديثاً، شكل العناصر الأساسية خلال الخمسينات والستينات، لإقامة كتلة دولية ثالثة، تمثل كتلة السلم والإشتراكية، والتي تتمتع بالإستقلال عن استراتيجية الأحلاف السياسية والعسكرية والإقتصادية، التي تحكمت في العلاقات الدولية. ان ظهور كتلة السلم والاشتراكية عبّر عن إرادة الشعوب في البلدان النامية للحفاظ على التوازن الدولي، عبر العمل من أجل:

  • إلغاء جميع المعاهدات الأجنبية؛
  • إجلاء جميع القوات الأجنبية المحتلة ورفض مشاريع الدفاع المشترك؛
  • تأميم النفط، وكافة الشركات الإحتكارية وجميع المرافق العامة؛
  • إعلان الحياد الفعلي40؛

لقد اثبتت الاحداث التاريخية، أن الإستعمار والإستعمار الجديد، يتحمل جانباً من المسؤولية الأخلاقية في بقاء التجزئة والتخلف في العالم العربي واستمرار الفجوة الحضارية والتكنولوجية العلمية لابعاد الدول العربية عن فرصة اللحاق بالتطور العلمي والثقافي الذي يشهده العالم الصناعي، كما كان الإعلان في الأمم المتحدة عن تأسيس دولة الكيان الصهيوني الذي يشكل انتهاكاً خطيراً لحقوق شعب فلسطين في تقرير مصيره واختيار نظامه السياسي والاقتصادي في اطار دولته المستقلة، أحد أهم العوامل المهددة للأمن القومي العربي، مما مهد لاندلاع الحروب والنزاعات التي شكلت عبئاً كبيراً واستنزافاً خطيراً للثروات وللموارد البشرية والاقتصادية وكرست ظاهرة التخلف والتجزئة.

بناء عليه، دعى حزب البعث العربي الاشتراكي الى أن يتسم موقف الدول العربية من الصراع بين القوتين العظمى حينها ومختلف اشكال الصراعات اللاحقة : بالحياد والإستقلال، وتأكيد الالتزام بمبادئ واهداف حركة عدم الانحياز. لأن الإستقلال والتمسك بسياسة عدم الانحياز ستوفر فرص جدية للتنمية وبناء الامن والسلام، وستكون قادرة على المساهمة في التخفيف من مخاطر نشوب حرب عالمية نووية، لن تؤدي إلا لدمار وفناء الحياة الإنسانية.

  • المباديء الجديدة للعلاقات الدولية

لقد بلغت فلسفة القومية العربية، والنظرة للتحديات التي تواجه العلاقات الدولية، في بناء الأمن والسلم والاستقرار والتنمية، مرحلة من النضج تُمكن الفكر السياسي من الإنفتاح على مختلف الإتجاهات الأيدولوجية، لتتفاعل مع تطور وتنوع الوعي الإنساني، واختلاف المصالح الاستراتيجية للدول، هذا الإنفتاح: “يغذيها ويقويها ويساعدها على توضيح معالم شخصيتها وخصائصها”41.

وبعد النجاح الذي حققته حركة القومية العربية وأفكار مؤتمر باندونغ ومؤتمرات عدم الانحياز في القرن العشرين ، تحول ميزان القوى إلى جانب القضايا الكبرى للامة العربية، وبلدان آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية، مما بلور حركة واسعة للتضامن والتعاون الدولي بين أطراف حركة التحرر والوحدة الوطنية لبناء السلم وتحقيق التنمية. فالنجاح في تحقيق التضامن بين شعوب البلدان النامية والتي استقلت حديثاً  مكن من تطوير قدراتها وفعاليتها في مقاومة ظاهرة الإستعمار والإستعمار الجديد، وبما يؤمن فرص حيوية لوضع قواعد جديدة في العلاقات الدولية لخدمة الحضارة الإنسانية.

لقد تميزت نظرية القومية العربية بالقدرة على “الإنشاء والبناء”42، في إطار “الفكرة الإنسانية الشاملة القائمة على وحدة المصير الإنساني، ووحدة قضية السلم والحرية والتقدم لجميع شعوب الأرض”43، وهذا يعني أن القومية العربية تحولت إلى قوة انسانية خلاقة:

  • الكفاح ضد الإستعمار والاستعمار الجديد ومواجهة توحش العولمة
  • العمل من أجل الحرية والديمقراطية وضمان حقوق الانسان
  • المساهمة بفاعلية في بناء السلم والاستقرار العالمي

لقد دعى حزب البعث العربي الاشتراكي الى ان تتميز السياسة الخارجية العربية، ذات المضمون الديمقراطي والتحرري بنقطتين، الأولى: مجابهة الأحلاف؛ الثانية: كسر احتكار السلاح. مما كان يعني رفض الشروط السياسية القائمة على وقف التعاون بين الدول العربية التقدمية والدول الإشتراكية، بهدف الإنتقاص من سيادة واستقلال البلدان العربية، واستمرار خضوعها لنفوذ الدول الصناعية الرأسمالية، والحد من قدرتها في بناء منظومة دفاعية وطنية توفر القدرات اللازمة للدفاع عن الامن الوطني.

لذا تبنت الدول العربية التقدمية سياسة خارجية تحررية، انطلاقاً من مبادئ واهداف حركة عدم الانحياز، التي وفرت فرصاً لانفتاح الاقطار العربية والنامية على دول الكتلة الاشتراكية والصين لتطوير قدراتهم الاقتصادية والدفاعية في الردع ولمنع العدوان، بجانب العمل لتحقيق التفاعل مع حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وامريكا اللاتينية، في اطار احترام قواعد القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الكبرى لحركة عدم الانحياز، وبما يدعم  سياسة الاستقلال للاقطار العربية ورفض التبعية للنظام الرأسمالي ويعزز فرص التعاون والتضامن نحو الوحدة، لأن سياسة عدم الانحياز تضمن توسيع فرص العمل العربي المشترك، وكلما اقتربت الاقطار العربية من بناء شراكة سياسية واقتصادية سيتعزز الاستقلال وبرامج التنمية44.

ويستخلص القائد المؤسس : “إن الحياد الإيجابي يعني للعرب: ألنموذج في بناء المجتمع التقدمي العصري، وهذا النموذج يقدم فرصة لإعطاء الرسالة العربية معناها الإنساني المعاصر. هكذا يشعر العرب أن في حرصهم على الحياد الإيجابي، لا يحرصون فقط على حريتهم، وإنما على وحدتهم أيضا، وإنهم في حفاظهم عليه وتمسكهم به إنما يحافظون على رسالتهم القومية ويتمسكون بها”45.

فالسياسة التحررية العربية، الملتزمة بفلسفة وأفكار عدم الانحياز، كشفت عن دور الأمة العربية في النضال ضد مختلف أشكال الهيمنة، “وأمدت هذا النضال بوسائله الفعالة من القوة العسكرية والإقتصادية، وساعدته على كسب تأييد الرأي العام العالمي لقضية العرب القومية. إن هذه السياسة، هي الوسيلة الوحيدة الضامنة لاستمرار سير الشعب العربي في الإتجاه التقدمي، الذي يقي قوميته من كل استغلال وتشويه، ويسمح للأمة العربية أن تحتل مكانها في المجتمع الدولي لتقوم بدور فعال في السياسة الدولية، من أجل تخفيف حدة التوتر وتصفية المعسكرات وتدعيم الحرية والإستقلال لكل شعب من الشعوب، الأمر الذي لا سبيل بدونه لخلق الجو المناسب والشروط الملائمة لتدعيم السلم العالمي”46.

الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، هو الذي يعكس هذه السياسة القومية العربية في المجال الدولي، هذه السياسة: “لا تريد أن تكون تابعة لأي من سياسة الكتلتين، فهي تعني أول ما تعني: التعامل مع جميع الدول دون تفريق بسبب نظامها الإجتماعي أو الإقتصادي أو السياسي”47، فسياسة القومية العربية تتعامل مع السياسة الدولية، شرط استناد العلاقات الدولية على: “أساس من احترام السيادة، وعدم تدخل بلد ما في شؤون البلد الآخر”48. أي أن سياسة الحياد تمثل جوهر السياسة العربية القومية، التي تعمل على ضمان الإستقلال والحرية وتعزيز القدرات الدفاعية للأمة العربية، ومن أجل تحقيق الوحدة والتقدم ولبناء السلام في الشرق الأوسط والعالم49.

كما تعمقت تجربة الشعوب الآسيوية والأفريقية، منذ مؤتمر باندونغ عام 1955م، ولغاية المؤتمر الأول لبلدان عدم الإنحياز الذي انعقد في بلغراد، عام 1961م، حيث تبلور مفهوم عدم الإنحياز كبديل عن تعبير الحياد الإيجابي.

لقد عالجت المؤتمرات القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي هذا التغير مؤكدة على عدم حيادية الحزب في الصراع بين التحرر والإستعمار، أو بين الإشتراكية والرأسمالية، وشددت على رفض سياسة المحاور أو التبعية، والعمل على تشجيع سياسة عدم الإنحياز وتوسيع التعاون مع الأحزاب والدول التي تكافح مختلف أشكال الإستغلال، وتعمل على تحقيق المجتمع الإشتراكي50.

إن عدم الإنحياز في فكر البعث يعني: الإستقلالية في الموقف والتعامل تجاه المحاور والإيمان بأهمية تحقيق السلام العالمي على أساس من العدل، لأن في رفض التكتلات والمحاور: “خدمة لقضية السلم من حيث أنه يساعد في خلق بقعة واسعة تخفف من حدة التناقض بين العملاقين المتصارعين”51، كما يوفر عدم الإنحياز فرصة للشعوب للتعبير عن موقفها تجاه القضايا القومية والعالمية، بهدف تحقيق التوازن والتضامن والأمن والسلم بين الشعوب والدول.

  • استنتاجات

لقد تبلورت الاتجاهات الأساسية لفكر حزب البعث العربي الاشتراكي ومنذ تأسيسه حول أهمية مكافحة الإستعمار والإستعمار الجديد، والعمل على دعم الشعوب في نضالها من أجل الحرية، وتنمية التعاون بين الأمم لضمان الرفاهية والسلم، مع التأكيد على استقلالية السياسة العربية في الموقف والتطبيق، من صراع القوتين الكبرى. ثم جاءت مباديء باندونغ وحركة عدم الانحياز، منسجمة تماما مع تصور البعث وقائده المؤسس ونظرته حول أهمية إعادة بناء النظام الدولي الذي تكون بعد مؤتمر يالطا، بالشكل الذي يضمن احترام حقوق الإنسان في الديمقراطية، وحق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والإلتزام بالإمتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم القيام أو التهديد بالحرب.

لقد بقيت حركة عدم الإنحياز أمينة على المباديء التي طرحها القائد المؤسس الرفيق ميشيل عفلق، والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو، ورئيس وزراء الهند جواهر لال نهرو، عبر التأكيد على: إزالة الإستعمار، وإنجاز التحرر والإستقلال الوطني، وضمان حق تقرير المصير للشعوب في اختيار طريق تطورها الإجتماعي والسياسي والإقتصادي والثقافي، لضمان التعايش السلمي، كقاعدة لتأمين توسيع المشاركة الفعالة لجميع الدول في الحياة الدولية، وبما يُمكن من تحقيق ديمقراطية العلاقات الدولية52.

إن الأيدولوجية العربية لحزب البعث العربي الاشتراكي ، تعبر عن سياق فكري ونضالي هدفه تحقيق الوحدة العربية كنموذج تتسع فيه إمكانات الحياة الديمقراطية والإشتراكية والإنسانية، وبما يُحفز في الأمة العربية الروح الحضارية الجديدة للمساهمة بفعالية في بناء عالم جديد غير منحاز، بعيد عن سياسات الكتل والاحلاف العسكرية والحروب، تسوده علاقات دولية، قائمة على احترام حق الشعوب في تقرير المصير53، وضمان الاستقلال والسيادة وتوفير الشروط لتحقيق التقدم الاقتصادي، الصناعي والزراعي ومجابهة تحديات البيئة والفقر والبطالة عبر خطط التنمية الشاملة لتحقيق الازدهار والرفاه الاقتصادي.

لقد عبر إيمان الاقطار العربية والاحزاب والحركات التقدمية “بالحياد الإيجابي وعدم الإنحياز” عن نظرة مستقبلية54، لأن العروبة بالمضمون الحديث والمعاصر قد تجاوزت بمفهومها القومي الإنساني والإشتراكي، المفهوم القومي الليبرالي، وكذلك المفهوم الأممي الماركسي اللينيني، المبني على التناقض بين الإشتراكية والقومية، “فالقومية العربية أصبحت تعني: “الثقة بالأمة والنظرة الإيجابية إلى الإنسان”55، وهي تعني: الإستقلالية لتأكيد الخصوصية مع ضرورة الإنفتاح على العالم وتجاربه المعاصرة56.

هذه هي أبرز عناصر مفهوم عدم الإنحياز والحياد الايجابي لدى حزب البعث العربي الاشتراكي وقائده المؤسس والتي وضعت الأسس العملية للسياسات التقدمية للدول العربية وللسياسة الخارجية للعراق، الذي دافع عن قضية كبرى، هي قضية الحرية وديمقراطية العلاقات الدولية، والذي نجح بتحرير الأيدولوجية العربية من القوالب النظرية والعقائدية الجامدة، لأن الأفكار تكون “دائما في حالة إعادة بناء”57.

الخاتمة

لقد وقف حزب البعث العربي الاشتراكي دائماً الى جانب الشعوب المستعمَرة التي تُسرَق ثرواتها وتتعرض الى الهيمنة والطغيان وبغض النظر عن الطغاة والسراق . وقد كان الهدف من مبدأ عدم الانحياز هوعدم الانحياز الى اي من القطبين الدوليين حينها وهما السوفيتي و حلف وارشو من جهة والامريكي و الحلف الاطلسي من جهة اخرى.

وازاء ما يشهده العالم اليوم من متغيرات متسارعة وصعود اقطاب جديدة علينا اليوم ان نبحث في جوهر المبادئ التي استندت عليها فكرة عدم الانحياز والحياد الايجابي  بما يتلائم مع العصر الحديث. ففي ظل مظاهر مقاومة نظام القطبية الواحدة وبروز قوى من الممكن ان تشكل اقطاب جديدة وتساهم في اعادة التوازن الدولي فان الامة العربية مطالبة بتحديد وتجديد موقفها وبما يضمن مصالحها اكثر من أي وقت مضى لأنه بإعادة التوازن تتعدد خيارات الدول على طريق بناء العلاقات على قاعدة المصالح المشتركة. وإنه في مثل تلك الحالة المنتظر ولادتها، يمكن اعتبار جوهر منهج (الحياد الإيجابي)، أو سياسة (عدم الانحياز) منهجاً واقعياً على الامة العربية وحركة التحرر العربية بلورته بما يحقق مصالحها ويحفظ امنها القومي ومواردها ويعزز استقلال  قرارها.

ان ذلك يحتم علينا دراسة التكتلات والتجمعات المتصارعة الآخذة في التشكل الان وفي المستقبل والتي تهدف الى استعمار الشعوب والأمم بوجوه جديدة وباشكال مختلفة وآليات متطورة وتقنيات غير مسبوقة ستؤدي الى انهيار دول كبيرة وصعود أخرى. إنها دعوة إلى القوى الحية  في الأمة إلى تحديد مواقعها من أجل ضمان حماية المصالح القومية العليا و حاضر أبناء الأمة ومستقبل أجيالها.

مكتب الثقافة والاعلام القومي

4/ نيسان/2020

[1]      جزء من بحث للدكتور غازي فيصل  المنشور في العدد الثالث من مجلة علوم سياسية، جامعة بغداد، العراق.

 

1 – نقولا الفيرزلي، عدم الإنحياز، باريس، منشورات العالم العربي، 1983، ص17.

2 – ميشيل عفلق، في سبيل البحث، بغداد، دار الحرية للطباعة، 1985، الجزء2، ص52.

3 – نفس المصدر، ص52.

4 – نفس المصدر، ص52.

5 – نفس المصدر، ص52.

6 – أنظر: ميشيل عفلق، في سبيل البعث، م س ذ، ص55. لم يضع الأستاذ ميشيل عفلق السياسة السوفييتية في صف واحد مع السياسة الإمبريالية الغربية بل وجد فيها قوة معدلة لطغيان الدول الرأسمالية، كما وجد فيها عاملا مشجعا لقوى التحرر في العالم،

7 – نفس المصدر، ص53.

8 – نفس المصدر، ص54.

9 – نفس المصدر، ص54.

10 – نفس المصدر، ص55.

11 – ميشيل عفلق، سياستنا الخارجية، جريدة البعث،11/1/1948.

12نضال البعث، بيروت، دار الطليعة، 1972، ص50.

13 – ميشيل عفلق، العرب والاتحاد السوفييتي، جريدةالبعث،29/5/1951.

14 – نفس المصدر.

15 – نفس المصدر.

16 – ميشيل عفلق، القوى الاستعمارية، جريدة البعث، 13/7/1951.

17 – نفس المصدر.

18 – ميشيل عفلق، معركتنا مع الاستعمار محتومة، جريدة البعث،24/8/1951.

19 – نفس المصدر.

20 – ميشيل عفلق، تحرر العرب ووحدتهم ضمان حيادهم، مقالة في 7/12/1956، أنظر في: سبيل البعث، م س ذ، ص188.

21 – نفس المصدر، ص188.

22 – نفس المصدر، ص188.

23 – نفس المصدر، ص189.

24 – ميشيل عفلق، صراع العرب مع الاستعمار والصهيونية، جريدة البعث،27/3/1957.

25 – نفس المصدر.

26 – خطاب ميشيل عفلق في مؤتمر مكافحة الاستعمار، في أثينا 1/11/1957.

27 – ميشيل عفلق، الحياد الإيجابي، حديث في القاهرة، آذار 1957.

28 – نفس المصدر.

29 – نفس المصدر.

30 – نفس المصدر.

31 – نفس المصدر.

32 – نفس المصدر.

33 – ميشيل عفلق، الشعب العربي الواحد، القاهرة، حديث مع ممثلي التيارات القومية والماركسية،1957.

34 – نفس المصدر.

35 – نفس المصدر.

36 – ميشيل عفلق، معركة الصبر الواحد، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات، 1975،ص7.

37نضال البعث، بيروت، دار الطليعة، 1973، ص136.

38 – نفس المصدر، ص126.

39 – نفس المصدر، ص134.

40 – نفس المصدر، ص210.

41 – ميشيل عفلق، القومية العربية والسياسة التحررية، جريدة البعث، 11/5/1957.

42 – ميشيل عفلق، حول مبدأ آيزينهاور ومؤتمر الشعوب، جريدة البعث، 1/11/1957.

43 – نفس المصدر.

44نضال البعث، بيروت، دار الطليعة، ج2، 1972، ص281.

45 – نفس المصدر، ص282.

46 – نفس المصدر، ص284.

47 – نفس المصدر، ص226.

48 – نفس المصدر، ص226.

49 – نفس المصدر، ص228.

50نضال البعث، بيروت، دار الطليعة، 1972، ص10.

51 – نفس المصدر، ص128.

52 – د. إلياس فرح، البعث وفلسفة عدم الإنحياز، بغداد، دار واسط،1987، ط2، ص62.

53 – خطاب الرفيق ميشيل عفلق في الذكرى السابعة والثلاثين لتأسيس الحزب، بغداد، دار الحرية، 1984، ص8.

54 – ميشيل عفلق، الديمقراطية والوحدة، بغداد، دار الحرية، 1989، ص10

55 – كلمة الرفيق ميشيل عفلق في الذكرى 27 لتأسيس الحزب، بغداد، دار الحرية، 1984، ص7.

56 – نفس المصدر، ص8.

57 – ميشيل عفلق، الديمقراطية والوحدة، مصدر سبق ذكره، ص11.

Author: Medhat