أحْدَاثُ السُّوَيْداء.. المَطلُوب سُورِيّاً وعَرَبِيّاً
د. نضال عبد المجيد
كشفت الأحداث الأخيرة في محافظة السويداء في سورية، وقبلها أحداث جرمانا والساحل السوري، عن حجم الآثار التي تركتها السياسات المدمِّرة التي انتهجها نظام الاسد على النسيج الاجتماعي السوري طيلة أكثر من خمسين سنة. لعب خلالها على زرع الخوف في نفوس الأقليات السورية والمندمجة أصلاً في بناء وطني لم يعرف من قبل مفاهيم الأقلية والأغلبية، زاعماً أنه هو الحامي لها من بطش الأغلبية. فكرست سياساته في رفض الآخر، الذي هو بالضرورة شريك في الوطن، هواجس الخوف والثأر.
وزادت السنوات الأربع عشرة الأخيرة من عمره من هذا الاحتقان، حيث بدأت بوادر انهيار الدولة. مما دعا المواطنين للعودة إلى الأصول الفرعية، طائفية كانت أم قومية. وهذا ما يحدث غالباً، في حالات الانهيار المجتمعي، وعدم قدرة الدولة على احتواء مواطنيها، وعجزها عن بسط سيادتها وقوانينها على كامل التراب الوطني. حينها يعود المواطن إلى أصولِه القبلية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية، التي كان منغمساً فيها في مرحلة ما قبل الدولة.
لقد عالج الفكر القومي العربي الذي جعل الوحدة العربية أول وأسمى أهدافه الاستراتيجية، مسألة الأقليات في الوطن العربي وفق منطلقات إنسانية وحضارية باعتبارها جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، ومشارك أصيل في نهضة الأمة. وفي نفس الوقت أدرك من خلال رؤية متقدمة ومتبصرة ما يمكن أن يتيحه استغلال أعداء الأمة لوجودها لغرس خناجر التسميم والتفتيت المجتمعي، خاصة والوطن العربي ما برح تحت سهام الغرب الاستعماري الذي زرع الكيان الصهيوني في قلبه لهذا الغرض بالذات، وليكون على مقربة من أي حالة نهوض قومي أو بناء وطني، حاضراً وبسرعة قصوى لضربه وتدميره. إضافة إلى توظيف أي ثغرة في النسيج الاجتماعي، لتحقيق خرق بالإمكان البناء عليه في مرحلة قادمة، ليضمن له التوسع والنفوذ.
في هذا السياق أقر المؤتمر القومي الحادي عشر لحزب البعث العربي الاشتراكي المنعقد في تشرين أول ١٩٧٧، استراتيجية التعامل مع مسألة الأقليات في الوطن العربي. وتم تضمينه في تقريره السياسي، وبما يحافظ على الوحدة الوطنية للأقطار العربية، ويعطي للأقليات حقوقها الثقافية، في إطار المواطَنة المتساوية والانصهار الوطني، بحيث تشكِّل الأقليات دعامة أساسيّة لقوة الوطن ودفع غائلة التدخل الاستعماري والصهيوني.
لذا فإن سد منافذ هذا التدخل تبقى مهمة وطنية لا غنى عنها في المحافظة على النسيج المجتمعي من التصدُّع. وهذا بكل الأحوال يتطلب قيام دولة المؤسسات الوطنية المرتكزة على القانون والحقوق والواجبات المتساوية، حيث لا أغلبية ولا أقلية بل مواطَنة حقيقية.
وهذا لا يتأتى ببساطة بعد عقود من التخويف والبناء الخاطئ للنظام السابق، بل يتطلب قيام القيادات السياسية باستقطاب الكوادر المختصة والقيادات المجتمعية القادرة على بناء الدولة ومعالجة مشاكلها وفق رؤية وطنية تحيط بكل تفاصيل الواقع الاجتماعي.
وفي هذا الصدد نوضح أنه ” لا تنشأ مشكلة الأقلية إلا عندما تكون هناك مشكلة أغلبية، أي عندما تعجز شريحة اجتماعية واسعة من تحقيق مواطنيتها في الدولة وتفشل في تغيير هذه الدولة” ( ١).
إن مما فاقم المشكلة في الأقطار العربية هو أن الدولة القطرية شطبت من قاموسها مصطلح الأمن القومي العربي، وبالتالي أصبح ظهر كل قطر عربي مكشوف للأطماع والتدخلات الأجنبية، وفقا لنظرية (كل يقلع شوكه بيده). والأكثر من ذلك المساهمة الفعالة في تدمير البنى الاجتماعية في العديد من الأقطار، وكأن الكيان الصهيوني والصفوية الفارسية ينقصهما من يساندهما في تخريب العلاقات الاجتماعية بين أبناء القطر الواحد.
لقد أدى ما جرى ويجري في سوريا جراء سنوات استبداد نظام الأسد، وما حدث خلال السنوات الأربع عشرة الأخيرة التي تحول فيها القطر السوري إلى ساحة صراع متعدد الألوان والأشكال، حيث استجلَب النظام الاحتلال الإيراني وميليشياته المتعددة، والتدخل الأمريكي والصهيوني والروسي، وما فرّخته من أدوات القتل والإرهاب، إلى اتساع حالة التخندق الاثني والديني والطائفي، كل يلوذ بفصيله مما هدد عرى الوحدة الوطنية الجامعة.
لمواجهة هذا الواقع المرير، الذي استصحب معه تدخلاً وتغولاً صهيونياً تمثل باحتلال المنطقة المنزوعة السلاح وقمم جبل الشيخ، والاندفاع بعمق الجنوب السوري تحت ذريعة واهية وهي ” حماية الدروز” والتي رافقها قصف جوي لمواقع سيادية وقوات حكومية، إن كل ذلك يتطلب جهوداً استثنائية على أكثر من صعيد وكما يلي:
سوريّاً:
الإسراع ببناء المؤسسات الدستورية، والعمل على بناء القوات المسلحة والأجهزة الأمنية بناءً وطنياً، يُشرِك فيها كافة المواطنين لكونها واحدة من أهم مؤسسات ودعامات الاندماج الوطني.
إضافة إلى السيطرة على السلاح المنفلت بشتى الوسائل، خاصة وأن فوضى السنوات الأربعة عشر الماضية أفضت إلى تكدس أعداد مهولة من الأسلحة سواء بيد الفصائل أو الأفراد. وإنها لمهمة وطنية تضمن عدم تكرار ما حصل في الساحل أو في السويداء. ذلك أن حمل السلاح، حتى لو كان من قِبَل قوات الدولة المسلحة، فإنه بحاجة إلى ضبط عال ينبغي أن يسود في صفوفها. إن مغادرة عقلية الميليشيات إلى عقيلة الدولة تتطلب جهداً استثنائياً ينبغي الاضطلاع به.
إن النوايا الحسنة والمعلنة لا تكفي لوحدها، فالأمر يتطلب عملاً فاعلاً وسريعاً، يضمن سيطرة الدولة على جميع أرجاء الوطن من خلال المشاركة الحقيقية وليس الشكلية لأبنائه. فشعور المواطن أنه جزء من دولة لا تهمِّشه، ولا تعتبره مواطناً من الدرجة الثانية، من شأنه أن يقلل أو ينهي أي حالة من حالات الاختراق. ويسهم في معالجة هذا الكم الكبير من المشاكل الموروثة والمستَجَدة.
كما أن كشف نتائج التحقيق في الأحداث ومعاقبة مرتكبيها، يعزز ثقة المواطنين في السلطة الانتقالية ويؤكد أنها سائرة في الطريق الصحيح.
إن” المواطَنة تنجح في تصنيع كيانية اجتماعية أعلى، جامعة، هي الكيانية الوطنية. وفي إنتاج ولاء جماعي أعلى هو الولاء الوطني. في الوقت عينه الذي تُضعِف فيه التعصب الفرعي، وتحيِّد أي أثر له في الحياة العامة. فلا تترك للولاءات الفرعية من دور في النطاق الاجتماعي العام، ولا قدرة على مزاحمة الولاء للدولة والوطن” (٢).
عربيّاً:
ينبغي أن يتيقَّن النظام الرسمي العربي، من أن الحفاظ على وحدة أرض القطر السوري هي بمنزلة الحفاظ على كل دولة من دوله. وأن المشروع الصهيوني قد كشر عن أنيابه، وأن كل محاولات استجداء السلام مع هذا الكيان قد باءت بالفشل، فهو لا يريد سلاماً، بل تمزيق وتفتيت، وسيطرة وهيمنة سياسية واقتصادية واجتماعية مطلقة على المحيط العربي برمته، وفقاً لنظرية المجال الحيوي، الذي يتيح له أن يكون الآمر الناهي في شؤون محيطه كافة وفي شتى مجالات الحياة.
فإلى متى تدفن الأنظمة العربية رأسها في الرمل ولا ترى شمس الحقيقة.
إن كل هذا يتطلب العودة إلى تفعيل مقومات الأمن القومي العربي واعطائها أولوية مطلقة، وبناء القوة العربية الرادعة على كافة الأصعدة. قد يظن البعض أن هذا من الأحلام الغير ممكنة التحقق في ظل الواقع المرير والمتهالك، ولكن إرادة الأمة أقوى وأكبر، وامكانياتها وقدراتها عالية جداً إذا ما استثمرت في سياقها الصحيح.
دوليّاً:
على العرب الاستفادة القصوى من الصحوة الأوروبية والعالمية تجاه القضية الفلسطينية، والتي أدت إلى عزل الكيان الصهيوني. وذلك من خلال العمل على فضح جرائمه، وعدوانه وانتهاكاته اليومية لسيادة الأقطار العربية، وصولاً إلى الضغط السياسي والاقتصادي الذي ينبغي أن يمارس من أجل استعادة الحقوق العربية ولجم التغول الصهيوني، فعالم اليوم لا يعترف للضعفاء بحق الوجود والحياة.
الهوامش
_____
١) برهان غليون، نظام الطائفية من الدولة الى القبيلة، المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، بيروت، ط٢، ٢٠١٧، ص٩٥. صدرت الطبعة الاولى عام ١٩٩٠.
٢) عبد الاله بلقزيز، المتغيرات والصيرورات، مركز دراسات الوحدة العرببة، بيروت، ٢٠٢٤، ص ٥٠.