هيَ أَزْمَة الدُّرُوزِ- العَشَائِر العَرَبِيَّة فِي السُّوَيْدَاء أَمْ إِخْفَاق الدَّوْلَة الحَدِيثَة فِي النِّظَامِ الإِقْلِيمِي العَرَبِيّ فِي تَرْسِيخِ مُجْتَمَعٍ اندِمَاجِيٍّ بِهُوِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ أَصِيلَة ؟
أ.د. محمد مراد – لبنان
إن ما تعرضت له أقطار عربية عديدة بدءا من احتلال العراق في العام ٢٠٠٣، مرورا بسلسلة الحروب الأهلية التي ما تزال مفتوحة في غير قطر عربي منذ مطلع العشرية الثانية للقرن الحالي، وصولا إلى حرب التدمير والتجويع والإبادة التي ما زالت تشنها العدوانية الصهيونية – الأطلسية على غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا. هذه الحروب ما كانت لتستمر لو لم يلعب فيها الخارج الدولي والإقليمي على ورقة افتعال وتغذية الانقسامات المجتمعية بين الاثنيات الطائفية والمذهبية والعرقية والجهوية. كل ذلك جاء لينذر، ليس فقط مستقبل الدولة القطرية المعاصرة في وجودها، وانما ليفتح الجغرافية السياسية العربية برمتها على ترسيمات كيانية اجتماعية وسياسية جديدة من خلال التوسع في عمليات التفكيك والتجزئة على أساس هويات متغايرة، تأخذ تعبيراتها الثقافية والسياسية في إطار دويلة – الطائفة الغالبة أو المذهب الغالب أو العرق المتجانس أو العشيرة النافذة.
ثمة سببان هما الأكثر تأثيراً وفعالية يكمنان وراء دوامة الأزمات العربية منذ ما يزيد على القرن من الزمن. الأول: التدخل الخارجي الدولي والإقليمي مدفوعاً بنزوع جامح للهيمنة والإلحاق والاستئثار بالخصوصيات الجيوسياسية للوطن العربي وثرواته الهائلة، والثاني: إخفاق الدولة الحديثة والمعاصرة في النظام الإقليمي العربي في وظيفتها البنائية في تعزيز الوحدة المجتمعية القائمة والتأسيس لمجتمع اندماجي متماسك يقوم على مرتكزات المواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
اولا: في الدور الخارجي
جاءت الحرب العالمية الاولى( ١٩١٤- ١٩١٨) لتفتح المجال العربي أمام مرحلة جديدة انتقلت معها الرأسماليات الأوروبية المنتصرة في الحرب من مرحلة تأمين البيئات الدافئة لاختراقها السلطنة العثمانية في السابق، إلى ترجمة تنفيذية لمخططاتها الاستعمارية في توليد نماذج لدول عربية حديثة مفصلة على قياسات مصالحها الاستراتيجية في التوظيفات الجيوسياسية من ناحية، وبما يستجيب للتراكمات الخطية المستمرة لاقتصادها الرأسمالي من ناحية أخرى.
في أيار/ مايو (١٩١٦) رسمت اتفاقية سايكس – بيكو الجغرافية السياسية لواقع عربي جديد تحت السيطرة المباشرة للثنائي الرأسمالي الأنكلو – فرنسي . وفي مؤتمر ” سان ريمو” سنة ١٩٢٠، انتزعت الدولتان بريطانياً وفرنسا تفويضا من المؤتمر يتيح لهما السيطرة المباشرة على المشرق العربي تحت صيغة ” الانتداب” التي لم تكن سوى صيغة ملطفة للاحتلال والاستعمار.
تقدم سياسة الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان نموذجاً عن الممارسة التفكيكية والتجزيئية للدولة المنتدبة اي فرنسا. ففي رسالة بعث بها الرئيس الفرنسي “الكسندر ميللران” إلى مفوضه السامي في سوريا ولبنان الجنرال ” غورو ” مؤرخة في ٦ آب ١٩٢٠، اقترح فيها صيغة بديلة للدولة السورية العربية التي قامت في عهد الملك فيصل. إذ قال “ميللران” إن النظام الذي يستجيب بصورة أفضل لمصالح سوريا ومصالحنا أيضا هو سلسلة دول مستقلة جمهورية الشكل تتناسب مع تنوع الأعراف والديانات والحضارات، وتتحد في فيدرالية تحت السلطة العليا للمفوض السامي ممثل الدولة المنتدبة، وبذلك لا تكون الوحدة وحدة إدارية مركزية بل وحدة إقتصادية وجمركية ومالية”.
أما ” غورو” فقد رأى أن تأمين السيطرة الفعلية على سوريا ولبنان إنما يكون في إضعاف دمشق ومحاصرتها من الخارج. وأن الوسيلة العملية لتحقيق مثل هذا الإضعاف تكون في فك ارتباط دمشق عن حلقات تأثيرها الأساسية في مراكز المدن الكبرى (حلب، بيروت، طرابلس) ذات الطابع الإسلامي الغالب، والتي يمكن أن تشكل مع دمشق قوة إسلامية حقيقية لها وزنها في مواجهة السياسة الفرنسية. لذلك، كانت وجهة نظر ” غورو” تقوم على عملية القضم التدريجي لاحتواء المعارضة انطلاقاً من الأطراف وصولا إلى المركز. فاعلان دولة ” لبنان الكبير” يحسم الوضع في مدينتين مهمتين هما بيروت وطرابلس، والخطوة التالية تكون في فصل حلب، وبذلك تعزل دمشق عن عمقها الإسلامي في هذه المدن، وتتحول إلى موقع ضعيف من حيث الفعالية والتأثير في مواجهة المخططات الفرنسية.
من هنا، اقترح ” غورو ” أن تنحصر التجزئة في ثلاث أو أربع دول فقط، ويقول بهذا الصدد :” وعلى العكس، فإنه من السهل الإبقاء على التوازن بين ثلاث أو أربع دول كبيرة يتيح لها وضعها أن تكفي نفسها بنفسها، ويساعدنا عند الحاجة على تأليب بعضها على البعض الآخر”. وقد خلص الحوار بين ” ميللران” و ” غورو” إلى إعطاء الأخير صلاحية تنفيذ المخطط الفرنسي، فأصدر سلسلة من القرارات قضت بإنشاء مجموعة من الدويلات على أسس اثنية طائفية غالبة، وكانت على التوالي: دولة لبنان الكبير، دولة العلويين، دولة حلب، دولة دمشق ودولة جبل الدروز.
ارتكز السلوك الانتدابي الفرنسي إلى مبداين متناقضين من منظار المصلحة الوطنية والقومية لسوريا ولبنان، لكنهما متلازمان من حيث الهدف والنتيجة من منظار المصلحة الاستعمارية الفرنسية، الأول: مبدأ التجزئة السياسية والفصل السياسي بين المناطق، والثاني : مبدأ التوحيد الإقتصادي بقيام نوع من الكونفدرالية الاقتصادية بين سائر الدويلات من حيث النقد والجمارك والتجارة بين الأسواق الداخلية والخارجية.
جاءت الثورة السورية الكبرى التي انطلقت من جبل الدروز ( ١٩٢٥ ـ ١٩٢٧) لتقدم الدليل الساطع على نضالات الشعب في سوريا من أجل استعادة وحدته الجغرافية والاجتماعية والسياسية والوطنية، وتأكيد هويته العربية الأصيلة في الانتماء إلى أمة عربية واحدة لها تاريخها الحضاري وعطاءاتها الإنسانية.
واذا كانت حركة المعارضة للانتداب الفرنسي قد تشكلت من قوى اجتماعية نشأت أساسا في المدن الكبرى ( دمشق، حلب، بيروت وطرابلس )، فإن هذه الحركة ظلت مقصورة على العمل السياسي وفي إطار الطروحات السياسية، ورفع مذكرات الاحتجاج والبيانات وعقد المؤتمرات. وقد كان من الطبيعي أن تشكل المدن السورية واللبنانية محور النضال السياسي ضد الانتداب الفرنسي في وقت كان فيه الريف الزراعي ما يزال يعاني من تخلف عام بسبب سيطرة العلاقات الاقطاعية المستمرة من المرحلة العثمانية الطويلة.
وثمة سبب آخر أسهم في تبوء المدن مركز الصدارة في العمل السياسي يكمن في أن ممارسات الاحتلال كانت تبدو أكثر وقعاً في المدينة، حيث أجهزة الإنتداب وشركاته ومؤسساته وسائر الأدوات التابعة له. في حين ظلت الأرياف الزراعية، لاسيما في المناطق الجبلية ( جبل الدروز، جبال العلويين، جبل عامل، الريف الحلبي..) بعيدة عن الاحتكاك المباشر بمراكز تجمعات الانتداب وأجهزته.
بيد أن التشريعات العديدة التي أصدرتها سلطات الإنتداب لتنظيم الملكيات العقارية، والتي لم يكن الهدف منها سوى تكريس الملكيات الكبيرة لكبار الإقطاعيين وتجار المدن، انعكست مباشرة على واقع الفلاحين في الأرياف، وأضفت على حرمانهم طابعاً قانونياً وحقوقياً. ومما زاد في أزمة الأوضاع الفلاحية كانت التجزئة السياسية التي اعتمدتها فرنسا في إقامتها عددا من الدويلات شكلت نوعاً من العزلة ليس بين المناطق الريفية والجبلية وحسب، بل أيضا بينها وبين أسواقها التقليدية في المدن. حيث كان يجري تصريف الفائض الإنتاجي عبر وسطاء من تجار هذه المدن. فقد أحدثت التجزئة شللا في حركة المبادلات الداخلية، وأضرت بعلاقات السوق التي انعكست انخفاضاً ملحوظاً في تصريف الكميات المنتجة في الأسواق الداخلية. ففي جبل الدروز شهدت عمليات التفاعل مع اسواق المدن تراجعات حادة، الأمر الذي جعل الجبل الدرزي أن يكون سباقا في إعلان الانتفاضات والثورة. إلى جانب انتفاضات أخرى مماثلة في جبال العلويين(صالح العلي)، في حلب (ابراهيم هنانو)، وجبل عامل ( ادهم خنجر)، وانتفاضات عديدة في حوران والبقاع وعكار وغيرها.
أكدت هذه الانتفاضات على دور الأرياف الزراعية والجبلية في مجابهة الانتداب الفرنسي، ورفض مخطط التجزئة القائم على الفصل السياسي بين المناطق على أساس من الفرز الطائفي والمذهبي والجهوي. واستمرت حركات المقاومة الشعبية للانتداب تشهد مزيداً من التصاعد والإرتقاء في أساليب عملها حتى كانت الثورة السورية الكبرى (١٩٢٥ – ١٩٢٧) التي أكدت على قيام محور سياسي وعسكري التقت عنده جميع الفصائل الوطنية السورية على تحرير سوريا واستعادة وحدتها السياسية والوطنية مع رفضها بقوة لمخطط التفكيك والتجزئة واصطناع الحدود الفاصلة بين مناطقها المختلفة.
صحيح أن الثورة انطلقت درزية، ولكن الصحيح أيضا أنها تجاوزت الخصوصية الطائفية وأخذت منحى وطنياً عروبياً قومياً، فراحت تضع المطالبة باستقلال سوريا واستعادة وحدتها كاملة من غير المطالبة باستقلال الجبل الدرزي وحده.
أما أبرز الأهداف التي رسمتها الثورة فكانت أربعة محورية:
١- وحدة البلاد السورية، ساحلها وداخلها، وانتزاع الإعتراف بدولة سورية عربية واحدة، ومستقلة استقلالاً تاماً.
٢- قيام حكومة شعبية تجمع مجلساً تأسيسياً لوضع دستور يقرر سيادة الدولة السورية الواحدة الموحدة.
٣- سحب القوى الفرنسية من جميع البلاد السورية، وانشاء جيش وطني لصيانة الدولة وحمايتها.
٤- تأييد مبدأ الثورة الفرنسية التي نادت بالحرية والإخاء والمساواة.
تركت الثورة نتائج بالغة الأهمية، حيث كانت منبها للسياسة الفرنسية المعتمدة في الدويلات السورية ولبنان الكبير، الأمر الذي دفع بأرباب تلك السياسة إلى إجراء تعديلات معتبرة في السلوك السياسي المعتمد، بحيث تم الإعلان عن نهاية الحكم العسكري الفرنسي المباشر، واطلقت مرحلة جديدة من الحياة الدستورية تمثلت بتشكيل اللجنة التأسيسية لإعداد الدستور السوري، وفتح الطريق امام قيام الكتلة الوطنية السورية التي قادت النضال الوطني حتى تمت إستعادة الوحدة السياسية الوطنية للدولة السورية الواحدة في العام ١٩٤٢. اي بعد نحو من اثنتين وعشرين سنة على التجزئة وقيام الدويلات والفصل بين المناطق..
ثانيا: الأقليات في الدولة الاستقلالية العربية بين التهميش وغياب مشروع الإندماج الوطني
في ظل الدولة الاستقلالية التي ظهرت في الوطن العربي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت، وما زالت، قضية الأقليات تمثل أحد أبرز القضايا والمشكلات التي لم تلجأ أنظمة الحكم الأوتوقراطي والعسكري العربية إلى اعتماد سياسات وطنية ناجعة لمعالجتها، والعمل على تحويلها من مشكلة رابحة في التوظيفات الخارجية الدولية والإقليمية المدفوعة بأطماع السيطرة والهيمنة والتغول،الى ظاهرة اندماجية وطنية في الاجتماع الوطني السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
لم تعرف قضية الأقليات المعالجة المطلوبة، فقد ظلت تعكس أزمة بنيوية في غير قطر من الأقطار العربية. أزمة تعود بصورة أساسية، إلى تنكًر السلطات الحاكمة لخصوصيات الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية، اللغوية والتراثية والثقافية. خصوصيات اكتسبتها تاريخياً في منطقة هي مهد الأديان السماوية وتعدد الثقافات والحضارات التي أسهمت، عبر تفاعلها، في نسج علاقات مشتركة أهمها وأعلاها رابطة الثقافة والوعي بهوية وجودية عربية واحدة.
إن المشكلة بين الاثنيات التعددية في الوطن العربي، لم تخرج عن إطار المفهوم الحسابي الرقمي الذي اعتمدت على أساسه التوزيعات الرأسية للسلطة الحاكمة للدولة ( رئاسات الجمهورية والوزراء والنواب). وكذلك، انسحاباً على سائر مفاصل الإدارة والهياكل المؤسسية للدولة ومرافقها العامة. فالمشكلة تكمن أولا واخيرا، في تغييب الديمقراطية كأساس في المشاركة بين مواطني الدولة بدءاً من حرية التعبير، والحق في الإقتراع، وفي تأليف الجمعيات والمشاركة في الموارد العامة، وانتهاءً بالحضور الفعلي في السلطة على كل مستوياتها الهرمية، وفي اجهزتها التقريرية والتنفيذية.
في الدولة الاستقلالية العربية، ظلت قضية الأقليات من دون مشروع وطني للمعالجة من جانب النخب السياسية التي تبوأت السلطة في غير قطر عربي. الأمر الذي سهّلَ للخارج الدولي والإقليمي الى استثمارها لتقسيم المُقَسَّم وتفتيت المجتمع بهدف تحويلها من كونها قضية أقليات وحسب، إلى مشكلة بنيوية مجتمعية .
لقد أخفقت النخب التي تولت قيادة الدولة الاستقلالية العربية في اعتماد استراتيجية مراحلية تقوم على مبداين متلازمين: الاول، تطوير آليات الديمقراطية كمنهج ثابت في الممارسة العملية على مستوى المشاركة في الحياة السياسية للدولة، والثاني، في رعاية حرية التعبير عن الآراء الفكرية والثقافية والتشكيلات الحزبية والنقابية التي تعزز وتعمّق الإندماج المجتمعي لسائر التركيبات الإثنية في إطار الدولة الوطنية الجامعة.
إن العائق الأكبر الذي حال دون صياغة مفهوم عربي معاصر يعمِّق التماسك المجتمعي ويمنع حدوث الفجوة التي يسعى اليها المستعمر بين التعدديات الإثنية الطائفية والعرقية والجهوية، يتمثل في ثقافة السلطة التي اقتبستها النخب العربية سواء في أواخر المرحلة العثمانية أم في ظل الدولة الحديثة تحت السيطرة الأجنبية وبعدها في مرحلة الدولة الاستقلالية المعاصرة.
ذلك أن هذه النخب التي استقت ثقافتها من الجامعات الأجنبية، ظلت تعتمد نماذج الحكم التسلطي كاليات ثابتة في الممارسة الديمقراطية داخل الدولة. فلم تتعامل هذه النخب مع الديمقراطية بوصفها مشاركة سياسية على عدة مستويات، لا مجرد عملية حسابية. الأمر الذي جعل الإغتراب في الثقافة السياسية ينتهي إلى اضطراب في البحث عن الأصالة. اي التوفيق بين التراث والتحديث ضمن سياق ذاتي في التغيير الذي يبقى فاعلاً أساسياً في تواصل عمليات الإندماج الوطني الجامع، السياسي والإجتماعي، وفي الإرتقاء بالهوية والوعي والإنتماء إلى الدولة الديمقراطية والعادلة .