الفَاو
يَوم التَّضْحِيَةِ و الفِدَاء و النَّصْر
د. نزار السامرائي
في تقدير معظم الخبراء العسكريين الدوليين، تبقى معركة تحرير الفاو في السابع عشر من نيسان/أبريل 1988، من طراز الحروب التي يجب أن تُستخلص منها الدروس، بعد إخضاع صفحاتها المتعددة، بدءا من الإعداد الحاذق الذي نهضت بأعبائه، قيادات عسكرية عراقية وصلت إلى أعلى مستويات الاقتدار والخبرة. سواء تلك التي اكتسبتها في المعاهد العسكرية التي تخرج منها القادة، وخاصة تلك التي بناها العراق الحديث، فصارت منارات عالية بين المعاهد العسكرية ذات التاريخ الطويل في أرقى دول العالم، وذات المناهج الحربية الحديثة، المستندة على تجارب الحروب التي خاضتها مختلف دول العالم.
أو الخبرة العالية التي اكتسبتها مختلف الوحدات القتالية، طيلة ثمانِ سنوات من عمر القادسية الثانية المجيدة، أو تلك التي أكتسبها المقاتل في أدق المهمات، أو العقول التي كانت تقف وراء التخطيط لتلك المعارك، أو للمطاولة في ساحات الحرب في أشق الظروف القتالية والمناخية والبيئية، أمام عدو راهن كثيرا على عامل الزمن من أجل الاحتفاظ بالفاو، بحيث وصل غرور القوة لدى قياداته العسكرية والسياسية والدينية، إلى حد أنهم أبدوا الاستعداد لتقديم التهنئة للقيادة السياسية العراقية في حال تمكن الجيش العراقي من استرداد الفاو. وكأنها سلعة رخيصة قابلة للمساومة، وليست أرضا عراقية لها قدسية وطنية لا تقل عن أية مدينة أخرى.
واقع الحال أن مدينة الفاو، التي ظلت تحت الاحتلال عامين ونيف، لم تغب عن ذهن كل عراقي كخنجر مغروس في العظم العراقي، فحولها العدو من خلال مجهوده الحربي، إلى حصون ومواضع دفاعية متعاقبة، والمحمية بحقول ألغام متتالية ومحاطة ببحيرات وموانع مائية غاية في الصعوبة. كل هذه التحصينات التي اقتبسها العدو من تجارب الحروب السابقة بما فيها الأولى والثانية، تركت العدو في وهم استحالة قدرة الجيش العراقي على مجرد وضع خطة التحرير، ناهيك عن القدرة على تحريرها.
وبين إصرار وطني عراقي على مستوى القيادتين السياسية والعسكرية، على تطهير الأرض الوطنية من دنس عدو ماكر ومتغطرس، على استعداد أن يبدي الكثير من المرونة عندما يشعر بالضعف، ويتحين الفرصة للانقضاض على ما اتفق عليه انتظارا لفرصة أن يسترد شيئا من عافيته السياسية والاقتصادية والعسكرية. ولكن مع اقتدار عسكري صقلته تجارب الجيش العراقي، في فلسطين عام 1948، وما شهدته الجبهة الشرقية من معارك باسلة، وكذلك حماية دمشق من السقوط السهل بأيدي قوات العدو الصهيوني في حرب تشرين/أكتوبر 1973، كان لا بد من تلقين العدو الفارسي درسا تاريخيا لمنعه من تخطي حدود الأخلاق والأدب في تعامله مع العراق.
لقد كان الإعداد لمعركة تحرير الفاو، تجسيدا للعبقرية العراقية القادرة على تخطي كل الصعوبات السياسية والعسكرية والميدانية، فلقد باغت العراقيون العدو الذي حشد النخبة من قواته للدفاع عن الفاو، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من بأس الله وبأس العراقيين الأشداء، الذين تخطوا الموانع المائية التي لا تتحرك فيها الدروع والآليات الثقيلة التي سجل فيها العراقيون أنهم قادرون على عبور المستحيل. فأطبقوا على مواضع العدو الذي أراد من الفاو أن تكون مدخله على الخليج العربي، وأراد منها أن تكون منطلقا للزحف إلى الأراضي العراقية الأخرى في إطار مشروعهم العدواني التوسعي أي مشروع تصدير الثورة.
لقد تمكن العراقيون بانتصاراتهم في القادسية من تأخير المشروع الفارسي الصفوي أكثر من عقد من الزمن، وكانت بطولتهم قد سجلت ولأول مرة في تاريخ الحروب الحديثة، أن بلدا يبلغ عدد سكانه أقل من ثلث سكان عدوه، ومساحته لا تختلف عن تلك النسبة، أن يلقن عدوه درسا تاريخيا اعترف زعيمه الديني والسياسي والقائد العام لقواته المسلحة الإيرانية، أنه اضطر لتجرع كأس السم عندما وافق في 8/ 8 /1988رغما عن أنفه، على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598 الذي كان قد صدر قبل أكثر من سنة من ذلك المشهد التراجيدي الذي عاشه الخميني وقيادته العسكرية والسياسية، مما أدى إلى موته قبل سنة، من ذلك المشهد.
لقد ظل السؤال المرير الذي طرحه الخميني على نفسه، وعلى كبار المسؤولين السياسيين والقادة العسكريين، عن أسباب هذه الهزيمة النكراء وخروج الفاو من سيطرة قوات الاحتلال، والتي كانت معركة تحريرها شارة البدء بمسيرة تحرير كل الأراضي العراقية التي دنستها أقدام جنود العدو. ولكن نتائج المعركة ظلت عصية عن فهم العقول المريضة. ذلك أن العراقيين، يمكن أن يتراخوا برهة من الزمن، ولكن وعيهم ووطنيتهم وغيرتهم على كل شبر من أرضهم وكل حبة رمل فيه وكل قطرة من مياهه، لا يمكن المساومة عليها مهما اشتدت المحن وغلت التضحيات.
إن الشعب العراقي الذي تعرض للعدوان عام 2003، لم يهادن حتى وإن ابتعد يوم النصر والتحرير، وكما خططت العقول العراقية المقتدرة، على خوض معارك التحرير في القادسية والتي تكللت بالنصر، وكما أن العراقيين واجهوا الغزو ثم الاحتلال، بتلك الشجاعة التي أجبرت الولايات المتحدة على أن تخفي خسائرها بالجنود والمعدات خوفا من انهيار المعنويات، فإنها لم تستطع من الإبقاء على أرقام تلك الخسائر إلى الأبد. فقد بدأت الحقائق تتكشف تباعا، وظهرت مأساة توريط الجنود الأمريكيين، في معركة ظنت قيادة مجرم الحرب جورج بوش الابن، أنها نزهة أسهل بكثير من مناورات عسكرية بالذخيرة الحية. ولكن الصراع الداخلي في الولايات المتحدة، أجبر الجهات المسؤولة عن ملف قدامى المحاربين، إلى الكشف تباعا عن هول الفاجعة.
ويكفي العراقيين فخرا أنهم قبلوا بمنازلة أكبر تحالف عسكري دولي منذ الحرب العالمية الثانية، فلم يبق قريب أو بعيد، إلا حاول الاستثمار فيه، فمنهم من قدم الممر البري لقوات الغزو، ومنهم من قدم القواعد الجوية، ومنهم من فتح الأجواء والممرات الملاحية أمام تحرك قوات العدوان. نعم لم يتحقق النصر الناجز في المعركة، ذلك أن قوى الشر من كل السحنات والألوان واللغات واللهجات، جندت نفسها للمشاركة في وليمة اقتسام الغنيمة وتهديم الصرح العروبي الذي كان سدا منيعا بوجه كل الأطماع والنوايا ضد أمتنا العربية.
إن فارق القوة التكنولوجية المتاحة لطرفي المنازلة كانت تسجل مزية للعدو، لا سيما وأن العراق كان يخضع لأقسى حصار اقتصادي عرفه بلد في العالم، بل لم يشهد له العالم مثيلا في التاريخ الحديث.
إن شعبا أرغم الأمريكان على تسمية إحدى بوارجه باسم “الفلوجة” من حقه أن يفخر بانتصاره عليهم، على الرغم من التواطؤ المتعدد المحاور، وهذا الشعب بقيادته السياسية التي خاضت المعركة ضد الغزاة، قادر على إنجاز هدف التحرير وبناء تجربة ثورية جديدة ستكون منارا لكل المكافحين من أجل الحرية والانعتاق.