سُورْيَا اليَوْم ..
الوَضْع الماليِّ وَحَرَكَة النَّقْد
– سوريا جَسّام أمِين
في ظروف سوريا الراهنة بعد انتصار الثورة وهروب بشار الأسد الرئيس الفاسد ذبّاح شعبه وبعد تنظيف الخزينة السورية من النقد الأجنبي وخلو البنك المركزي من الاحتياطي النقدي الاجنبي والمعدن الاصفر .
وبعد العبث في الاقتصاد السوري من اوساط الأسد والطبقة الطفيلية الفاسدة يجري الان البحث في مستوى الطلب الأمثل للاحتياطيات الاجنبية التي ينبغي أن يحتفظ بها البنك المركزي السوري نيابة عن الدولة لأن سوريا الان ليست في وضع اقتصادي مريح يسمح لها المجال او يسمح لخيارات متاحة تلجأ اليها حتى تبحث التكلفة التي يتحملها الاقتصاد الوطني من زاوية تحديد الاحتياطي المطلوب أو الأمثل أو الممكن منعاً لئلا يطيح ذلك بالاستخدامات الأخرى البديلة لهذه الموارد والتضحية بها، لأن البنك المركزي السوري يفتقد اصلا للاحتياطيات النقدية الخارجية بسبب السرقة والعبث فيها سابقاً ولا تتوفر الان شروط وظروف توفرها.
لكن من وجهة النظر الاقتصادية أو نظرية النقد فإن المستوى الأمثل للاحتياطيات النقدية الخارجية لاي بنك مركزي يتطلب عملياً المعادلة بين التكلفة والعائد الاجتماعي الطبيعي لهذه الموارد .بعبارة أخرى المطلوب جعل التكلفة الحدية للاحتفاظ بالاحتياطيات النقدية مساوية للمنافع الحدية الإنتاجية المتحققة منها.
تاريخياً وصلت احتياطيات البنك المركزي السوري عتبة الاحدى وثلاثين مليار دولار في أعوام الألفية قبل ٢٠١٠ إذ أدت عوائد اسعار الصادرات السلعية وموارد السياحة إلى تحقيق عوائد مكنت البنك المركزي من الوصول إلى مستوى هذا الرقم التاريخي من الاحتياطيات النقدية الخارجية. و لكن هذه الاحتياطيات تقلصت تدريجياً نتيجة توقف عجلة الاقتصاد السوري وتراجع صناعة السياحة عدا عن دخول سوريا في حالة من عدم الاستقرار السياسي والامني بدءاً من العام ٢٠١١ وما تلاه .
ولكن ماينبغي التأكيد عليه ان عوائد انتاج وتصدير القطاع الخاص مع السياحة هما فقط من شكّلا رافداً للموازنة العامة وقاطرةً للعجلة الاقتصادية حتى الى بعض السنوات الأولى من تدهور الوضع الداخلي وتطور الاحداث وبداية الحرب المعلنة من نظام الأسد على شعبه وتفريغ البلاد من قوة العمل وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري إلى خارج البلاد وبلاد المهاجر المجاورة والابعد .
حركة النَقْد
واليوم فإن ما تحتاجه سوريا بوضعها الصعب الحالي من احتياطيات نقدية خارجية او صعبة لدى البنك المركزي بافتراض تحقق السلام الداخلي الكامل والامان، هو ذلك الحجم الذي يسمح للبنك المركزي من سحب فائض السيولة المحلية من الاسواق ويعزز ثقة القطاع المصرفي والمالي بالسياسات النقدية وسياسة سعر الصرف التي يتبعها البنك المركزي السوري. عدا عن إشاعة قدر من اليقين لدى الخارج من أن سوريا قادرة على الوفاء بالتزاماتها امام احتياجات شعبها الداخلية بعد سنوات الجوع والفقر والفاقة والحاجة.
كما ان ذلك المستوى من الاحتياطيات الذي يلبي حاجة الدولة للاستيراد والالتزام بدفع ديونها الخارجية واعباء هذه الديون إضافة إلى مواجهة الصدمات الخارجية والداخلية وهذا هو وضع سوريا المستقر في ظل تحقق الاستقرار وفق ما هو مطلوب للناس والمجتمع .
نظرياً وتجريبياً فان نظام سعر الصرف الذي تتبعه الدولة في أي بلد يؤثر بحدود معينه وان كان بشكل غير مباشر على الموارد المتاحة للتنمية الاقتصادية وعبر ما يتركه من اثر على الاحتياطيات النقدية الخارجية، وبالتالي على بدائل استخداماتة المقررة سلفا .
وهنا ينبغي أن نفهم أن أنظمة سعر الصرف الثابتة بأنواعها تلتهم قدراً كبيراً من الاحتياطيات النقدية لدى الدولة فيما أنظمة اسعار الصرف المعوّمة والمدارة تحتاج إلى استخدام قدر اقل للاحتياطيات النقدية. لأن البنك المركزي السوري في وضع السعر المرن يستخدم مزيج من الأدوات للحفاظ على استقرار سعر الصرف إذ أن الأسواق الحرة هي من تحدد سعر الصرف العادل والذي يتحقق عبر ٱليات السوق الداخلية والخارجية. ولكن هذا يحدث حصرياً في الدول عندما تكون الأسواق ناضجة والهيكل الاقتصادي متنوع ومنفتح على الخارج .
وهنا على المؤسسات المالية والمصرفية ان تتميز بالانضباط وتنفذ معايير معروفة ونظم الشفافية والحوكمة في نشاطها وعملياتها المصرفية الداخلية والخارجية ايضا.
أسعار الصَرف
لكن في سوق الصرف في بلادنا لاتتوفر مثل هذه الشروط وهذه المعايير خاصة مع تحول جزء كبير من عمليات البنوك إلى شركات الصرافة ومع تراجع الاقتصاد الحقيقي فقد أصبح الاقتصاد النقدي هو من يمثل سمة الوضع الراهن خاصة مع غياب الشمول والرقمنة في النشاط المالي والاقراضي للبنوك المحلية المنتشرة .
وقد يتساءل بعض العامة من الناس كيف أن نظام سعر الصرف الثابت الذي تتبعة الدولة السورية الى حد ما مقبول في الوقت الحالي ويشهد استقراراً نسبياً في سعر الصرف، فيما نظام سعر الصرف المعوم في مناطق سلطة الشرعية الحالي أدى إلى تدهور مستمر في سعر الصرف قبل الثورة في النظام السابق وقبل الإنتصار واسقاط عصابات التسلط الاسدية ووصل سعر الصرف في دمشق عتبة ال ١٥ ألف ليرة سورية للدولار ..؟؟
الإجابة على هذا التساؤل واضحة ومعروفة وتفيد أن ماهو متبَع في سعر صرف السلطة في دمشق حينها لايمكن وصفه بأنه نظام سعر صرف ثابت لانه غير مرتبط بعملة دولية أو بسلة عملات دولية ولكنه سعر موجه من قبل السلطات الفوقية للنظام السابق وبالحديد والنار ولا تستطيع السوق المقيدة اصلا بالاجراءات والمخاوف تجاوزه ابدا .
ولذلك فان هذا السعر مرة أخرى وثانية وثالثة هو سعر صوري وغير حقيقي ومخرجاته لا تنعكس على اسعار السلع والخدمات ولا على أصحاب معامل الإنتاج . عدا أن المعروض هناك من العملة المحلية هو أقل بواقع 40 في المائة تقريبا عن حاجة المعاملات الاقتصادية في مناطق سلطة دمشق ولذلك يرتفع المعروض من العملات الأجنبية بالمقارنة مع المعروض من العملة المحلية وسرعة تداولها عبر عمليات البيع والشراء المحلية وعبر ضخ العملات كاجور ورواتب والتزامات انفاقية أخرى .
ولكن في الوضع الحالي بعد سقوط نظام الأسد هناك أزمة سيولة محلية قوية وهناك عامل مهم يدعم الاقتصاد دمشق بقوة يتمثل بحجم التحويلات المالية الخارجية بالعملات الأجنبية التي تذهب الى سوريا والتي تشكل قيمة واردات
مناطق اخرى أيضا خارج سيطرة الدولة من السلع والمحاصيل حيث يحول يوميا ماقيمتة بين 30-40 مليار ليرة سورية تقريبا.
كما فرضت السلطة الجديدة المؤقتة منذ فترة نظاماً صارماً لتقنين واستخدام وتحويل العملات الأجنبية ومنع تحويلها إلى مناطق خارج سيطرتها فيما العكس يحدث في المحافظات السورية الشرقية حيث تتسرب العملات إلى مناطق سلطة العاصمة دمشق بسهولة ويسر والكثير من مكاتب وشركات الصرافة تستلم يومياً توجيهاتها من هناك .
ولذلك مايحدث من مضاربات في سعر الصرف موجهة عدا أن الأزمة الاقتصادية التي تواجهها سوريا هي نتاج لسياسة سلطة النظام السابق الفاسد وجزء من أدوات عصابات الاسد فهم من فرضوا الظرف القاهر لاخراج مادتي النفط والغاز عن سيطرة الدولة، وعلى النظام الجديد العمل على وضع اليد على هذه الثروة الوطنية .
مضاربات الفساد
من جانب اخر وبسبب الظرف الحالي الذي يتسبب في غياب وضعف الدور المساند للبنك المركزي السوري من قبل الجهات الحكومية الجديدة ومؤسساتها، والفراغ الناجم عن غياب الحكومة الحالية فى هذه المرحلة الانتقالية فقد استفحلت عمليات المضاربة بسعر الصرف وبدوافع الإثراء وتحويل الأموال خارج سلطة البنك المركزي وهو ناتج عن مخرجات بقايا الفساد العام الذي استفحل بشكل وحشي بزمن الحاكم القاتل بشار الأسد .
مبدئيا كان يفترض أن يؤدي نظام سعر الصرف الحر المتبع الان إلى الوصول إلى تحقيق سعر الصرف الحقيقي والعادل أو المقبول لكن عوامل كثيرة لعبت دوراً سلبياً وألحقت ضرراً بالغاً بمعيشة الناس ومن بينها عدم كفاءة السوق وتشوهاته وعدم تفعل النظام الجديد وإنفاذ القانون وتعدد السلطات ومراكز النفوذ وغياب الدور الداعم والإسناد للبنك المركزي .
فجميع هذه العوامل وفرت بيئة مثلى للأنشطة الطفيلية وتوسع عمليات المضاربة بسعر الصرف. ومع ذلك يعمل البنك المركزي الان على ملاحقة الأنشطة ويأمل تعزيز دور الدولة ومؤسساتها الأمنية والقانونية في هذا المجال.
واخيرا نود أن نشير الى أن تحقيق اختراق يؤدي إلى عودة سعر الصرف إلى وضعة الطبيعي النسبي يتطلب تعزيز احتياطيات البنك المركزي بعدد من المليارات من الدولار تمكنة من سحب فائض السيولة وتوفير حاجة الاستيراد الضرورية . ولكن مثل هذه الحلول ستكون مؤقتة إن لم يتم تحسين كفاءة تحصيل الموارد والحد من الإنفاق ومواجهة ظاهرة الفساد بحزم وبنية صادقة ومخلصة واعتبار ذلك مطلباً وطنياً قبل أن يكون مطلب إقليمي ودولي .
كما أن من المهم والضورة القصوى العمل على توفير مدخلات الطاقة الكهربائية وخدماتها وموارد شراء الطاقة بالاعتماد على الموارد المحلية ومن بينها موارد انتاج وتصدير النفط والغاز ونعتقد أن المتغيرات الدولية والمحلية المتسارعة ستخلق الظروف والشروط الملائمة لتحقيق هذه التوجهات على أرض الواقع وعلى المدى القصير والمدى المتوسط على ابعد تقدير .