لماذا تُعارض “إسرائيل” حيازة إيران للسلاحِ النَّووي؟
“تحت الرغوة اللبن الصريح “
بقلم المحامي حسن بيان
منذ أكثر من خمسة عشر سنة، والملف النووي الإيراني يشغل الأوساط السياسية والإعلامية إقليمياً ودولياً، وهو كان ولما يزل أحد الملفات التي تتمحور حولها مفاوضات يجري بعضها تحت الطاولة وبعض اخر فوقها، رغم تبدل الادارة السياسية في كلا البلدين اميركا وإيران. ولعل أبرز تطورين شهدهما هذا الملف، الاول، توقيع اتفاق اميركي – ايراني في سنة ٢٠١٥ ابان رئاسة باراك اوباما متظللاً بتغطية من وكالة الطاقة الذرية. والثاني، خروج اميركا من هذا الاتفاق ابان رئاسة دونالد ترامب، وبعده تمت العودة الى المربع الاول من السجال حول الملف مع دخول “اسرائيل” بقوة عليه مهددة بالثبور وعظائم الامور إذا ما وصلت إيران الى مستوى من تخصيب اليورانيوم يمكنها من انتاج القنبلة النووية.
من يواكب الحراك الدولي والاقليمي حول الملف النووي الايراني وحقيقة المواقف منه، يلاحظ ان شبه اجماع دولي قائم على الحؤول دون تمكين إيران من الوصول بتخصيبها لليورانيوم للأغراض العسكرية، وان التخصيب بحدود معينة للأغراض السلمية هو المسموح به شرط ان يكون تحت اشراف وكالة الطاقة الذرية.
وعندما دخلت اميركا المفاوضات مع إيران حول هذا الملف، فإنه لم يكن البند الوحيد في ملف التفاوض، بل كان واحداً من ثلاثة، هو الأول. وأما الثاني، فهو بند الصواريخ البالستية البعيدة المدى، والثالث هو الدور الإقليمي لإيران في المنطقة. وكان الموقف الاميركي طيلة فترة المفاوضات يؤكد على ان هذه البنود الثلاثة هي سلة متكاملة لا تنفصل عن بعضها البعض، فيما الجانب الايراني كان يصر على عدم الربط فيما بينها، وان كل بند قائم بذاته.
عندما وقعت اميركا اتفاقها مع إيران سنة ٢٠١٥، اقتصر التوقيع عن البند الاول اي الملف النووي، دون الثاني والثالث، مسلمة بوجهة النظر الايراني بعدم الربط بين البنود الثلاثة. وقد اعتبرت إيران نفسها حينذاك انها خرجت رابحة بحيث لم تدخل بند دورها الاقليمي وبند امتلاكها للصواريخ البالستية في صلب الاتفاق. وإذا كانت وكالة الطاقة الذرية قد واكبت تلك المفاوضات، فإن مواكبتها كانت تقنية فقط، ولذا لم يكن لها شأن في انشاء الاتفاق. ومن يدقق في نسبة توازن القوى التي يحوز عليها الطرفان الأميركي والإيراني، يعرف جيداً أن أرجحيتها إنما هي للجانب الاميركي. ومنطق الامور يفضي الى القول، أن أي اتفاق بين طرفين انما تكون نتائجه محكومة بتوازن القوى بين الاطراف المتفاوضة. فيكف تعتبر إيران نفسها انها خرجت رابحة فيما ميزان القوى ليس في مصلحتها؟ هنا تكمن المسألة التي تحتاج لإجابة واضحة. وملخصها تحديد السبب الذي جعل اميركا تتراجع عن اصرارها بالتفاوض حول البنود الثلاثة كسلة واحدة “باكج”، والقبول بما كانت تصر عليه إيران، علماً ان ميزان القوى السياسي والعسكري والاقتصادي والاعلامي لمصلحتها؟
إن الإجابة على هذا التساؤل إنما يجيب عليه جوهر الاستراتيجية الاميركية حيال الوطن العربي وما بدأت تعمل لأجله بعد سقوط النظام الدولي الذي كان قائماً على ثنائية استقطابية، ومن ثم سقوط النظام العربي كنظام اقليمي بعد احتلال العراق واسقاطه وهو الذي كان يشكل احدى اهم المواقع الارتكازية للنظام العربي بعد المتغير الإقليمي الذي افرزته اتفاقيات “كامب دافيد “.
وإذا كانت الحاجة الملحة التي املتها ظروف الادارة الاميركية على ابواب انتخابات رئاسية تتشكل على اساسها ادارة الحكم، دفعتها للإعلان عن اتفاق حول الملف النووي الايراني لتوظيفه في سياق السباق على البيت الابيض وهذه كانت حاجة ظرفية، فإن البعد الحقيقي الذي دفع اميركا لعدم الربط بين البنود الثلاثة آنذاك، هو الادراك الاميركي، بأن المهمة التي ُادخلت ايران من اجلها الى المنطقة العربية لم تكن قد انجزت بكامل حلقاتها، وبالتالي فإن وظيفة الدور الايراني مازالت مطلوبة حتى تحقيق الاهداف المرسومة والتي من اجلها اُدخلت ايران على الرافعة الاميركية.
فيوم وُقِّع الاتفاق الاميركي – الايراني، كانت الحرب في اليمن في بدايتها، والصراع في سوريا محتدم ولم تكن قد وضحت صورته بعدما بدأت دفاعات النظام العسكرية والامنية تتهاوى ولم تنفع معه كل وسائط الدعم الايراني المباشر وغير المباشر بإنقاذه الا بعد الاستنجاد بروسيا بطلب والحاح ايرانيين. وعندما وقع ترامب قرار الخروج من الاتفاق كانت الحرب في اليمن قد دخلت في “ستاتيكو” اي الجمود والمحافظة على الوضع الراهن، وارتسمت في سوريا حدود النفوذ والتأثير في مجريات الاحداث على مساحة الجغرافيا السورية، وأصبح الوضع يحكمه “ستاتيكو” ايضاً بانتظار ترسيم مخرجات الحل السياسي كما الحال في اليمن.
إن التوقيع الاميركي على الاتفاق النووي كما الخروج منه، املته الضرورات الداخلية الاميركية في السباق الرئاسي بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ولم تمله تبدلات جوهرية في الاستراتيجية الاميركية في التعامل مع الحالة الايرانية ودورها في النظام الاقليمي الجديد. فكلا الحزبين تحكمها سياسة الاحتواء للنظام الايراني وليس اسقاطه، كما ان كل المواقف التي أطلقت في العهدين الديموقراطي والجمهوري كانت تدعو الى تقويم سلوك النظام في إيران وليس اسقاطه. وهذا ان دل على شيء فإنما يدل على ان العلاقات الاميركية – الايرانية ليست محكومة بعدائية اساسية وانما “بخلافات” حول حجم الدور وحجم النفوذ الذي تطمح له إيران، وتقديم نفسها شريكاً “مضارباً”، في اقتسام التركة السياسية التي خلفها انهيار النظام العربي.
إن أميركا التي تخطط لتركيب نظام اقليمي جديد تحفظ لإيران موقعاً فيه كما “لإسرائيل” وتركيا، لا تعمل لإسقاط النظام وانما لاحتوائه ضمن حدود ما هو محدد له من نسبة في النفوذ السياسي، فيما إيران تريد نسبةً، تتوازن مع الدور الذي ادته والذي بدونه ما كان للنظام العربي ان يصل الى مرحلة الانهيار وتنفجر العديد من ساحاته على وقع صراع مدمر ضرب مرتكزات البنية الوطنية كما التماسك الاجتماعي. فايران والحالة هذه ، تريد ان تقبض في كل الساحات التي تدخلت فيها بتواطؤ وغض نظر اميركي وصهيوني، من العراق الى سوريا ولبنان واليمن وصولاً الى فلسطين وكل ذلك لأجل تثبيت نفوذها كأحد اللاعبين الاقليميين في ادارة شؤون المنطقة، وهذا بطبيعة الحال لن تسطيعه الا بإجازة اميركية، ولذلك فهي على استعداد للدخول في صفقات تحت الطاولة مع اميركا “واسرائيل” وصولاً الى مبتغاها واقرب امثلته ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة حيث كانت المفاوضات الفعلية بين ايران” واسرائيل” برعاية اميركية، لكن الاشكالية لديها انها تريد أكثر مما هو محدد لها أو مقدر أن تحصل عليه.
وإذا كانت ايران ادخِلَت الى العمق العربي بالاستناد الى التسهيلات وغض النظر من اميركا “واسرائيل”، وقد استطاعت ان تؤدي دورها “بكفاءة عالية”، فما هو اذن المبرر للتصعيد السياسي والاعلامي بين الكيان الصهيوني والنظام الايراني حول الملف النووي، خاصة وان دور نظام طهران بما افرزه من نتائج حقّق ما لم يستطع العدو الصهيوني تحقيقه، لجهة تفتيت البنية المجتمعية العربية و تطييف الحياة السياسية والاجتماعية ورفع منسوب الخطاب المذهبي والجهوي والقبلي، وكلها عوامل ساهمت في اضعاف المناعة الوطنية والسياسية والمجتمعية العربية في مواجهة الاخطار المحدقة بالأمن القومي العربي؟ .
إن الإجابة على هذا التساؤل تحدده العلاقة التي يحكمها عاملان: الأول، التفاهم والتكامل الإيراني والاسرائيلي حول استهداف البنية القومية العربية،
والثاني، التعارض حول امتلاك إيران للسلاح النووي. بالنسبة للأول، إن الطرفين يعتبران أن الفضاء العربي هو المدى الطبيعي لمشاريعهما التوسعية ومن مصلحتهما أن تكون الأمة العربية في أضعف أحوالها. وبالنسبة للثاني، فان امتلاك إيران للسلاح النووي سيفتح الطريق امام سباق تسلح يكون العرب فيه هم الطرف المقابل.
أليست هذه القاعدة هي التي دفعت الهند لامتلاك السلاح النووي بعد امتلاك الصين له، كما امتلاك باكستان بعد امتلاك الهند له، وقس على ذلك؟
هذا فيما يتعلق بالعلاقة التي تبدو في ظاهرها عدائية بين إيران والكيان الصهيوني، اما فيما يتعلق بالعلاقة الاميركية الايرانية، فالأمر المختلف، اذ بالنسبة لعلاقة اميركا بإيران فهي محكومة بعاملين، الأول، أن أميركا تحفظ لإيران موقعها في ترتيبات النظام الاقليمي الجديد، وهذا محل توافق، والثاني، ان إيران تريد حصة أكثر مما هو مرسوم لها وهذا موضع خلاف، وهذا الامر ستحسمه التطورات المستقبلية بعدما بدأت مسيرة اعادة توضيب الدور الايراني في حدود ما هو مرسوم له أميركياً وبالتفاهم مع الكيان الصهيوني.
مما لا شك فيه ان معارضة “اسرائيل”، امتلاك القنبلة النووية هي معارضة جدية، لكن هذه المعارضة لا تنطلق من خلفية اقدام إيران أياً كان نظامها السياسي على استعمال السلاح النووي ضد ” اسرائيل”، ونجزم ان دولة الكيان الصهيوني تعي جيداً إن إيران لن تستعمل السلاح النووي ضدها، لأن إيران غير معنية بجوهر الصراع مع العدو الصهيوني. فمن يعتبر نفسه معنياً بهذا الصراع ببعده الإيجابي لمصلحة قضية شعب فلسطين، لا يعمل على ضرب البنيات الوطنية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين التي تستهدف اليوم بنيتها السياسية الوطنية والمؤشرات على ذلك كثيرة. فهل من يساهم في تدمير العراق وسوريا ولبنان واليمن والبنية الوطنية الفلسطينية هو فعلاً مع تحرير فلسطين ؟، أو أن رفعه لشعارات الدعم هو لمجرد الاستثمار السياسي في القضية الفلسطينية؟ ان الثاني هو المبتغى الايراني وهذا ما تدركه أميركا جيداً ومعها “اسرائيل” التي اختبرت متانة العلاقات بينهما وجمعتهما المصالح المشتركة ابان الحرب على العراق وأبرز امثلتها ما عرف يومذاك “بإيران غيت”، وبعدها توزع المهام بينهما في تنفيذ مخطط تصفية ضباط جيش العراق العسكري وجيش علمائه مضاف اليه اعتراف إيران صريح بانه لولا مساعدتها وخدماتها وتسهيلاتها لما استطاعت اميركا احتلال العراق.
إذاً ما هو مبرر موقف “اسرائيل” الضاغط لعدم تمكين إيران من امتلاك سلاح نووي مع المعرفة بانه لن يستعمل ضدها؟ ان المبرر الوحيد، للخوف الاسرائيلي من امتلاك إيران سلاحاً نووياً هو أنه سيكون سبباً لإدخال المنطقة في سباق تسلح نووي، اذ في اليوم التالي لامتلاك إيران سلاحاً نووياً سيبدأ الاستعداد العربي لامتلاك هذا السلاح. وهذا ما يخيف “اسرائيل” ويقلقها. فمناحيم بيغن قال يوم كان رئيساً للحكومة بعد ضرب مفاعل تموز سنة ١٩٨١ في العراق، ان ” اسرائيل”، تبادر لشن حرب على العرب في حالتين، إذا امتلكوا سلاحاً نووياً، او إذا حصلت وحدة بين سوريا والعراق. ولم يقل انها ستشن حرباً إذا امتلكت إيران سلاحاً نووياً علماً أن نبرة موقف نظام الملالي كانت عالية جداً ضد الشيطانين الأكبر والأصغر.
إن “اسرائيل” اقدمت على قصف المفاعل النووي في العراق وهو قيد الانشاء للأغراض السلمية، ودون ان تطلق حملة صخب سياسي وإعلامي، كما دمرت مؤسسة سورية هي قيد الانشاء ولم يكن كثيرون يعرفون انها منشأة للأغراض النووية، فيما يشغل التهديد والوعيد الاميركي والاسرائيلي مساحات واسعة جداً في الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، والمفاوضات لم تتوقف بينهم على أكثر من خط وفي أكثر من موقع. وبعيداً عن البروباغندا الاعلامية ورفع منسوب المواقف لتوظيفها في سياق المعارك السياسية الداخلية، فإنه لفهم طبيعة العلاقة الأميركية – الإيرانية من جهة، والعلاقة الاسرائيلية – الإيرانية من جهة ثانية يجب معرفة ما يعني المثل القائل: ” تحت الرغوة اللبن الصريح”.