في ظلِّ أنظمة الطائفيّة السياسيّة عامة الشعب أجراءٌ عند الأمراء

في ظلِّ أنظمة الطائفيّة السياسيّة

عامة الشعب أجراءٌ عند الأمراء

حسن خليل غريب

عند الكلام عن التمييز بين الدولة الدينية / او الطائفية السياسية ، والدولة المدنية الحديثة لا بُدَّ لنا من الاسترشاد بهرمية السلطة في كل منهما. فبمعرفة تكوين هرمية السلطة نستطيع أن نفرز بين نظام وُضع لخدمة الشعب، ونظام وضَع الشعب في خدمته.

وعندما نتكلم عن نظام الدولة الدينية، نرى أن نظام الطائفية السياسية لا يخرج عن مسارها، لا بل هو نظام يجمع دويلات داخل الدولة الواحدة، وكل دويلة طائفية تمثل طائفة مستقلة لها من مُشرِّعيها وفقهائها العديد، يتزعم كل دويلة منها أميرٌ للطائفة يستفيد من تشريعاتهم لإضفاء صفة القداسة على نفسه، ولتشكل غطاء لأنواع اساليب استغلال السلطة وحتى المفاسد.

 

نظام الدولة الحديثة وُضع في خدمة الشعب:

على قاعدة أن السلطة تنبثق من الشعب، وهي القاعدة التي تُبنى عليها الدولة المدنية الحديثة، ينتخب الشعب ممثليه في المؤسسات الرسمية الرأسية ويكون دورهم إحلال مبادئ العدالة والمساواة بين كل المواطنين دون تمييز طبقي أو عرقي أو ديني. ويبقى ممثلو الشعب المنتخبين تحت مبادئ المراقبة والمساءلة. فإذا نجحوا يُعيد الشعب انتخابهم وإذا فشلوا يسقطهم الشعب في الدورات الانتخابية اللاحقة.

 

نظام الدولة الدينية او الطائفية السياسية يضع الشعب في خدمته:

خضع نظام الدولة الدينية في عدد من حقب التاريخ، إلى قلة نخبوية من رجال الدين هم الذين يختارون رأس الدولة؛ تمَّ تطبيق هذا العرف في مختلف الاديان. وغالباً ما انتقلت السلطة من واحد إلى آخر بواسطة الوراثة لأن لا أحد كان يمكنه أن ينافس الوريث لأنه يملك قوة سلفه العسكرية والمالية، يقمع فيها الرافضين بعديد عساكره، ويغري فيها المنتفعين بغزارة أمواله. وغالباً ما كانت القوة العسكرية والمالية تحت سيطرة السلف، واستفاد منها الورثة قبل موت أسلافهم بوصية منهم؛ أو بعد موتهم إذا لم تكن هناك وصية سابقة. وقد شكَّلا طوال التاريخ اهم العوامل المؤثرة للوصول إلى السلطة، الا وهما القوة العسكرية والقوة المالية. وغالباً ما كانت السلطة تنتقل من واحد إلى آخر بالقهر والرشوة وليس بالقناعة.

إن الدولة الثيوقراطية تستند إلى مفهوم يضفي القداسة على رأس السلطة خاصة إذا كان يحتل موقعاً دينياً فيتحول إلى حاكم زمني وديني، يزعم هو والمحيطون به أنه (الحاكم بأمر الله)، ولا ينطق عن هوى، بل يحكم بما اعطاه الله من ملكات تصل إلى مستوى القداسة الإلهية، أو الرسالية. وفيما لو لم يكن رأس الدولة الثيوقراطية عالماً دينياً، فإنه يحيط نفسه بمجموعة من أولئك العلماء الذين لا دور لهم بأكثر من أن يسخِّروا اجتهاداتهم في النص الديني لوضعها في خدمة (رأس الدولة الزمني)، وبما يتناسب مع مصالحه.

ففي الدولة الثيوقراطية، ومما ارتبط بمفاهيمها كأنظمة الطائفية السياسية، يستثمر أولياء الأمر فيها كل ما يصب في خدمته هو وليس خدمة شعبه، كونه يمثل المركز الأول بين إحدى شرائح المجتمع الطائفية، فيضع جميع من ينتسبون إلى تلك الطائفة في خدمته. وجميع أولئك الأمراء يصبحون من الرموز المقدَّسة بين طوائفهم، يُعتبر المسَّ بهم من الخطايا التي يزعمون ويشيعون أن الله تعالى سيحاسب عليها من يقترفها يوم القيامة. وهم يستندون إلى أنه من خالف ولي الأمر كأنه خالف الله. وإنه ليس لبشري أن يفسخ أو ينسخ ما شرَّعه الله.

وبينما نستعرض خارطة الطريق في تركيب هيكلية السلطة في الدولة الثيوقراطية، سنعمل على مقاربتها مع ما يجري في الأنظمة الطائفية السياسية الحالية في كل من العراق وسورية ولبنان واليمن. وعن هذا الأمر، وإدراكاً منا أن هذه الخماسية مرتبطة ارتباطاً عقيدياً مع نظام الدولة الثيوقراطية في إيران، حيث تنحصر الأوامر العليا التي يصدرها ما يطلق عليه النظام لقب (المرشد الأعلى للثورة الإسلامية)، ما تعتبره عقيدة ذلك النظام بأنه الآمر الوحيد والبقية مُؤْتَمِرون؛ وهذا يعني أن كل التابعين له خارج إيران يخضعون لأوامره، ومن يخالفها كأنه خالف الله تعالى.

وعلينا أن نتخيَّل كم هو حجم التنازلات التي يقدمها أتباع النظام الإيراني لـ(مرشد الثورة في إيران). وكم هي خطيرة تلك التنازلات. فإذا كانت أوامر (المرشد) ملزمة لجزء من الشيعة الاثني عشرية وليس لكلها، وهي تشكل أخطر أشكال الديكتاتورية داخل الطائفة الواحدة، فكيف نصفها فيما لو تمَّ تطبيقها على الشرائح الطائفية الأخرى داخل إيران، وستكون في خارج إيران أكثر خطورة خاصة في الأقطار العربية التي تتواجد فيها مليشيات ذلك للنظام ممن يملكون قوة المال والقوة العسكرية.

 

لا دولة ذات سيادة في ظل ارتباط الأعراق والطوائف مع الخارج:

تعني سيادة الدولة فيما تعنيه أن تكون المؤسسات الدستورية الواحدة في أية دولة، صاحبة القرار في تقرير مصيرها كما تنص دساتيرها؛ وفي عقد الاتفاقيات على شتى أهدافها. وأن تكون مؤسساتها الأمنية صاحبة الصلاحية الحصرية في المحافظة على أمن الدولة الداخلي والخارجي. 

ونحن إذ نؤمن بمفهوم سيادة الدول على أراضيها، كما تفهمه دولة (ولاية الفقيه) الذي ثبَّتته في دستورها، الا أنه من المفارقات الصارخة هي ان ما ترتضيه هذه الاخيرة لنفسها تنكره لغيرها، ولا تعتبره حقاً من حقوق الدول الأخرى !!. ولذلك نجد أن مبدأ سيادة الدول كافة على أراضيها غائب تماماً في الاقطار العربية التي تحوَّلت إلى ما يشبه الأقاليم التابعة لنفوذ دولة (ولاية الفقيه) في إيران. وهذا الأمر يعني أن تلك الدول / الأقاليم فاقدة السيادة على قرارها. وهو ما يؤكد أن دولة (ولاية الفقيه) تكيل بمكيالين متناقضين، مكيال تحتكره لنفسها وعلى أرضها اي ايران، ومكيال تستخدمه على الشعوب الأخرى، وهذا ما يتناقض مع مبدأ العدالة (الإلهية) الذي تزعم أنها مكلفة بتطبيقه على شعوب العالم كافة.

 

لا دولة موحَّدة في ظل انتشار الميليشيات الطائفية:

إذا لم تكن إيران هي الدولة الوحيدة التي ابتكرت صناعة الميليشيات المنفلتة في الأقطار العربية الأربعة، فإنها كانت الأكثر استفادة منها؛ لهذا السبب لن تساعد دولة (ولاية الفقيه) في إيران على إلغاء دورها، بل سوف تتمسك به وتساعد على استمراره. وأما السبب فيعود إلى أن مبدأ (تصدير الثورة) يتناقض تماماً مع وجود دول متكاملة السيادة.

ولم تكن الدول الشرقية الكبرى الحليفة لإيران لتسكت عن الاستراتيجية الإيرانية، في نشر الميليشيات المنفلتة في الأقطار العربية الأربعة، سوى لأن مصالحها المرحلية تنحصر الآن في تقوية تحالفاتها الراهنة لمواجهة تحالف الدول الغربية. ولم تكن الدول الغربية الكبرى لتسكت عن الاستراتيجية الإيرانية لو لم تكن لها مصالح ترتبط بها في الأقطار العربية الأربعة التي يزعم النظام الإيراني السيطرة عليها. والخلاصة أن المصالح، شرقاً وغرباً، هي صاحبة القرار في السكوت عما يرتكبه نظام ولاية الفقيه من هيمنة احتلالية مطلقة، ونهب للموارد الوطنية، وتجاوزات وخروقات فاضحة للتشريعات الأممية في مبادئ سيادة الدول على أراضيها الوطنية.

وفي تقديرنا أنه ما دامت الصراعات بين الدول الكبرى مستمرة على مستوى درجات السخونة الحامية، كالتي نشهدها منذ سنوات قليلة، ستبقى سياسة غضِّ الطرف الدولية مستمرة تجاه مخالفات النظام الإيراني حتى تشهد الحرب الدولية الساخنة نهاية لها.

 

ولكن… لأن المصالح سيدة الموقف.

ولأن للدول الكبرى مصالح كبرى مع الدول العربية كافة.

ولأن الأقطار العربية، أنظمة وشعباً، متضرِّرة أشد الضرر من مشروع نظام ولاية الفقيه.

ولأن الدول الكبرى تملك ترف الوقت لأن أصابعها بعيدة عن سعير نار ما يرتكبه ذلك النظام.

ولأن النار تشتعل وتحرق الكيان العربي برمته.

ولأن الأكثرية الساحقة من عديد الميليشيات الموالية للنظام الإيراني على الأرض العربية، هم من الشباب ..

نرى ما يلي:

 

أولاً: للمنخرطين في المشروع الإيراني

1-على المغرَّرين العرب المنخرطين في المشروع الإيراني، المخدوعين بأنهم أقوياء، أن يدركوا أنهم أجراء في بلاط (المرشد الإيراني)، لأنه، فقهياً كما تنص اجتهاداتهم، الآمر الناهي، وهم المأمورون؛ عليهم الإذعان والطاعة تحت طائلة من يخالف (ولي الأمر) كأنه خالف الله تعالى.

2-وعلى هؤلاء أن يدركوا بأن لهم شركاء في أوطانهم العربية، لا تعني لهم عقيدة نظام (ولاية الفقيه) شيئاً ليس إهانة منهم للعقيدة، بل لأنهم لا يؤمنون بها وهذا حق لهم. كما أنهم لن يرتضوا أن يُساقوا إلى الخدمة في بلاط أحد، ولن يكونوا أجراء لحماية مصالح أحد يتعدى وجوده الأرض الوطنية.

3-إن المشروع الإيراني واصل لا محالة إلى طريق مسدود لأنه مخالف لمسار التاريخ وتطور المجتمع البشري في كافة المجالات ومنها في بناء الدولة المدنية. وعلى القائمين عليه أن لا يطمئنوا إلى تحالفاتهم مع الدول الكبرى الساكتين عن مشروعهم الغيبي، لأن هؤلاء سوف يخرجون عن صمتهم، عاجلاً أم آجلاً، بعد أن يزول تأثير الصراعات العالمية الدائرة في هذه المرحلة. وبعد زوال هذا التأثير ستتغير معادلات المصالح مع حلفائها، ومعهما سوف يصل المشروع الإيراني إلى الطريق المسدود.

ثانياً: للعرب، أنظمة رسمية وقوى شعبية

1- لمن يقف من الشعب العربي أيديولوجياً بالضد من استراتيجية نظام (ولاية الفقيه)، عليه أن يُدرك أن الدين شيء والمشاريع الدينية السياسية شيء آخر. فالبديل لمشروع (نظام ولاية الفقيه) لا يجوز أن يكون مشروعاً آخر لتسييس الدين، وإلاَّ سيكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار. وإنما البديل كما نراه، هو الذي يتبنى قواعد المواطنة وشروطها وأسباب نجاحها ودورها في توحيد قواعد مبادئ العدل والمساواة بين موطني الدولة المعاصرة وقواعدها وأسسها ومبادئها في شتى حقول الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحرية الاعتقاد.

2- خطاب موجَّه تحديداً للنظام العربي الرسمي

لقد استفاد النظام الإيراني من ديماغوجيته المعروفة بالمراوغة والخداع ، ببناء علاقات إيجابية مع الأضداد على المستوى الدولي والإقليمي والعربي. وللأسف استفاد كثيراً من مقايضاته ومساوماته بالقضايا العربية معها، بحيث باع الدول الأخرى كثيراً منها واشترى في المقابل منها الشيء الكثير من دون أن يدفع من جيبه (توماناً) واحداً.

ولأننا لا ندعو النظام العربي الرسمي أن يكون ديماغوجياً يعتمد وسائل الاحتيال والخداع. بل نطلب منه أن يستخدم مبدأ سلاح تبادل المصالح المشروعة والعادلة بين دولة ودولة. ولأن الدول الكبرى ساومت وقايضت النظام الإيراني على قضايا الوطن العربي – بشكل غير مشروع وعدائي- يمكن للنظام العربي الرسمي أن يتمسَّك بورقته الأقوى وهي أن الوطن العربي يشكِّل أكبر مساحة في العالم من المصالح التي يسيل لها لعاب الدول الكبرى منها أو الصغرى.

لذلك، نتوجَّه إلى النظام العربي الرسمي بالبحث في مبدأين اثنين، وهما:

1-الضغط على كل دولة كبرى أو صغرى، لإعطاء اولوية للتفاوض تحت ثنائية (إلغاء انتشار الميليشيات الإيرانية في الأقطار العربية مقابل تبادل المصالح).

2-استثمار الرساميل العربية في التنمية الاقتصادية والاجتماعية العربية وذلك من أجل توفير فرص العمل للشباب العرب العاطلين عن العمل، خاصة أنهم يشكِّلون الخزان الأكبر الذي غرف منه النظام الإيراني وسوف يغرف، وذلك بقيامه بدفع أجور هزيلة تكاد لا تسد رمق مئات الآلاف من الشباب. ومن بعدها يستخدمهم لحماية مصالحه وتقوية نفوذه في الأقطار العربية الأربعة التي ضَمِن ولاءها، ويده على جرار استثمار عشرات الآلاف منهم في الساحات العربية الأخرى. وفي ظل استمرار الأزمات الاجتماعية والاقتصادية ستبقى شرائح الشباب العربي العاطل عن العمل، منبعاً تستثمره الحركات الدينية السياسية الأخرى وتستأجرهم وتوظفهم في مشاريعها المشبوهة، خاصة وأن الوطن العربي عرف في السنوات الماضية مخاطر تلك المشاريع التي لم تقل جرائمها فظاعة عن الجرائم التي ترتكبها ميليشيات النظام الإيراني المأجورة.

 

 

Author: nasser