ما وراء الدعوة لميثاق نظام مالي عالمي جديد

ما وراء الدعوة لميثاق نظام مالي عالمي جديد

 

د. حسن العالي

عقدت في العاصمة الفرنسية باريس يومي 23 و24 يونيو/ 2023 قمة حضرها 40 من رؤساء الدول والحكومات في محاولة لوضع ميثاق لنظام مالي عالمي جديد، بهدف تفعيل دوره في توفير الأموال اللازمة لتحقيق أهداف التنمية الأممية 2030، وخاصة معالجة الفقر وأزمة المناخ. واتفق مراقبون إن القمة فشلت في تحقيق أهدافها ولم تحقق سوى بعض المبادرات تجاه الدول الفقيرة، لكن من دون أن تحقق التقدم الكبير المرجو لإعادة توجيه النظام المالي العالمي في خدمة المناخ.

ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال القمة إلى “صدمة مالية عامة” وإلى زيادة “التمويل الخاص” من أجل مساعدة البلدان الأضعف، موضحاً إن الدول “لا ينبغي أن توضع أمام خيار محاربة الفقر أو مكافحة تغير المناخ”، مطالبا بتغيير النظام المالي برمته لكي نجعله يعمل بشكل أفضل بكثير إذا وظّفت هذه الأموال وهذه السيولة في خدمة تقدم الكوكب وهذا التحدي المزدوج الفقر والمناخ، والتنوع البيولوجي”.

والهدف من القمة، كما ذكر رسمياً، هو تجديد الهيكل المالي الدولي الذي ولد من اتفاقات بريتون وودز في العام 1944 مع إنشاء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وتقول الدول النامية إن الحصول على تمويل من المؤسستين صعب للغاية، في حين أن حاجاتها المالية هائلة لمواجهة موجات الحر والجفاف والفيضانات، وأيضاً للخروج من الفقر مع التخلص من الوقود الأحفوري والحفاظ على الطبيعة. ومن أجل تحقيق ذلك، سيتعين على الدول النامية باستثناء الصين إنفاق 2,4 تريليون دولار سنوياً بحلول عام 2030، وفق تقديرات مجموعة من الخبراء تحت رعاية الأمم المتحدة، وكذلك زيادة إنفاقها على الوقود غير الأحفوري من 260 مليار إلى حوالي 1,9 تريليون دولار سنويا على مدى العقد، وفقا لوكالة الطاقة الدولية.

ومن بين الأفكار العديدة التي نوقشت في القمة فرض ضريبة دولية على انبعاثات الكربون من النقل البحري. ويتحدّث قادة العالم عن ضرائب أخرى ولكن أيضا عن إصلاحات مؤسسية، وإعادة هيكلة ديون الدول الفقيرة وتعزيز دور القطاع الخاص.

 

النظام المالي العالمي.. كماشة الدول النامية

وقبل الخوض في الأهداف الحقيقية لهذا المؤتمر وما يخفي وراءه وماذا يعني لنا نحن العرب، لنتعرف بشكل عام على مفهوم النظام المالي العالمي.

النظام المالي العالمي هو الإطار العالمي للاتفاقيات القانونية والمنظمات والمؤسسات المالية والبنوك والجهات الفاعلة الاقتصادية الرسمية وغير الرسمية اللاتي تسهل معًا التدفق الدولي لرؤوس الأموال بغرض الاستثمار والتمويل التجاري والمعاملات عبر العالم.

منذ ظهور المفهوم في أواخر القرن التاسع عشر خلال الموجة الحديثة الأولى من العولمة الاقتصادية، تميز تطوره بإنشاء بنوك مركزية ومعاهدات متعددة الأطراف ومنظمات حكومية دولية تهدف إلى تحسين شفافية الأسواق الدولية وتنظيمها وفعاليتها. كما يسرت الهجرة العالمية وتكنولوجيا الاتصالات في أواخر القرن التاسع عشر نموًا غير مسبوق في التجارة الدولية والاستثمار.

ولكي ندرك خطورة تأثير البنوك العالمية، التي تمثل الجزء الرئيسي من النظام المالي العالمي، على الاقتصاد العالمي نقول إن مجموع أصول هذه البنوك في العالم بلغت 190 تريليون دولار عام 2021 في حين إن حجم الاقتصاد العالمي (مجموع الناتج العالمي) يبلغ 102 تريليون دولار، أي أن حجم أصول البنوك يقارب ضعف حجم الاقتصاد العالمي، ومن هنا يتضح دورها الرئيسي في توفير التمويلات اللازمة لأهداف التنمية الأممية التي ركزت عليها قمة باريس.

إن سعي قمة باريس إلى إصلاح النظام المالي العالمي لا ينطلق من فراغ، فالدول الصناعية تدرك جيداً إن البنوك العالمية تهتم أولا بأرباحها والعوائد للمساهمين والمستثمرين. وهي وإن دفعت في السنوات الأخيرة لتخصيص جزء من أموالها للبرامج الاجتماعية، فهي لا تشكل سوى جزء يسير جدا من أرباحها.

كما أن البنوك العالمية ورغم المطالبات المتكررة لها لتوفير مزيد من الأموال الموجهة لبرامج تحقيق أهداف الألفية في الدول النامية، إلا أن مجموع قروضها للدول النامية لا يتجاوز 5.7 تريليون دولار من مجموع 190 تريليون دولار، إي أن نسبة قروضها لهذه الدول لا تتجاوز 6.3% من مجموع الأصول، وهي نسبة ضئيلة للغاية. بل الأسوأ من هذا إن هذه البنوك باتت تشكل كماشة الدول النامية لإرهاقها بالديون الباهظة التكاليف. فمن مجموع 9.3 تريليون دولار مجموع مديونية الدول النامية، تمثل مديونيتها للبنوك 61%، وهي كما قلنا ديون باهظة التكاليف بالمقارنة مع مديونيتها من المؤسسات الدولية.

إن البنوك في العالم المتقدم كانت هي السبب للانهيارات المصرفية التي كلفت الاقتصاد العالمي مئات المليارات من الدولارات، وكان أخرها انهيار عدد من البنوك الأمريكية قبل عدة شهور والكارثة المالية التي نشبت في العام 2008 بسبب جشع هذه البنوك وركضها وراء تحقيق الأرباح الطائلة.

إن حكومات الدول الغنية التي تقترض من الأسواق الدولية بعملاتها لا تواجه مخاطر التوقف المفاجئ عن الدفع، لأن بنوكها المركزية تعمل عمل مقرض الملاذ الأخير. ويعد إقراض حكومة الولايات المتحدة آمنا إلى حد كبير لأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يستطيع أن يشتري سندات الخزانة في السوق المفتوحة، مما يضمن في واقع الأمر أن الحكومة قادرة على ترحيل الديون المستحقة.

على النقيض من ذلك، تقترض البلدان المنخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى بعملات أجنبية (الدولار واليورو في الأساس)، وتدفع أسعار فائدة مرتفعة إلى حد غير عادي، وتعاني من توقفات مفاجئة.

وتقوم وكالات التصنيف الائتماني الكبرى (فيتش، وموديز، وستاندرد آند بورز جلوبال) بإعطاء تصنيفات دون مستوى الدرجة الاستثمارية لما يقرب من كل البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى وكل البلدان المنخفضة الدخل. وكلما انخفض التصنيف الائتماني للدول كلما يعني إن ارتفاع درجة مخاطر هذه الدولة، وبالتالي، تقوم البنوك العالمية بفرض أسعار فائدة أعلى على القروض المقدمة لها.

ويكفي أن نعرف بأن قيام الولايات المتحدة برفع سعر الفائدة العام الماضي وهذا العام سوف يكلف البلدان النامية 800 مليار دولار بحلول العام 2025، وفقاً لتقديرات وردت في تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (Unctad) ووفقاً للوكالة الأممية، فإنّ عدد الدول التي أنفقت على خدمة ديونها الخارجية أكثر من إنفاقها على نظامها الصحّي تضاعف تقريباً خلال العقد الماضي، إذ ارتفع هذا العدد من 34 إلى 62 دولة.

 

صندوق النقد والهيمنة العالمية

ولكن واضح من التصريحات التي أطلقت في قمة باريس إن المقصود بتغيير النظام المالي العالمي ليس نهج البنوك العالمية الذي تطرقنا له فحسب، بل حتى المؤسسات الدولية التي جاءت بها اتفاقية بريتون وودز في العام 1944، والمقصود بها تحديدا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتحكم الدولار في مصير العالم والتحويلات العالمية من خلال ما يسمى نظام “سويفت”.

فقد شدد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش خلال قمة باريس على أن الهيكلية المالية الدولية التي كرستها هذه الاتفاقية فشلت في تحقيق أهدافها وأن القواعد التي تخصص بموجبها الأموال من صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي أصبحت غير أخلاقية للغاية. وأضاف فيما يتعلق بحقوق السحب الخاصة عام 2021، فقد حصل المواطن الأوروبي في المتوسط على نحو 13 ضعف ما حصل عليه المواطن الإفريقي.

لقد بات واضحاً أن صندوق النقد الدولي يمثل أداة للهيمنة العالمية المالية التي خلقت النظام العالمي منذ ثمانية عقود تقريباً، هذا النظام الذي تكرس بنوع خاص بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أكثر من ثلاثة عقود، ونشوء وارتقاء النظام الدولي الجديد، بقيادة الولايات المتحدة، حيث يمتلك الجانب الأميركي حق النقض “الفيتو” بحكم الأمر الواقع، يسمح له بمنع أي عملية يعتبرها مخالفة لمصالحه.

صحيح نحن لا نغفل العوامل الداخلية في فشل برامج التنمية في الدول النامية بسبب التبعية والتخلف والفساد والدكتاتورية واتباع سياسات اقتصادية خالية من البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، لكن تدخل صندوق النقد عادة ما يفاقم هذه المشاكل ويؤدي إلى تفجيرها، كما نشاهد اليوم في تونس، وقبلها في مصر والأردن والمغرب وغيرها من دول العالم الثالث، حيث يقوم الصندوق عادة، وتحت دعاوي الإصلاح الاقتصادي وتحسين الميزانية المالية بفرض شروطه على الدولة المقترِضة منه تتمثل في تقليص منافع الرعاية الاجتماعية، أو خفض الدعم عن المحروقات والمواد الغذائية وتقليص عدد الموظفين في القطاع العام وإطلاق سعر الصرف. وهذه الإجراءات طبقتها مصر جميعا، وتعاني اليوم من أزمة اقتصادية شديدة.

ولعله من المؤكد أن سياسات صندوق النقد الدولي في أغلب دول العالم الثالث على وجه التحقيق والتدقيق، كانت لها نتائج كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. حيث تترك تلك السياسات الدول الفقيرة أكثر فقراً مما كانت، مع ارتفاع الديون وتعاظم الفوائد وزيادة معدلات البطالة ونسب التضخم. لا تبدو هذه اتهامات جزافية، بل تجارب تاريخية، فعلى سبيل المثال، وفي عام 2002، أزالت غانا التعريفة الجمركية على وارداتها الغذائية طبقاً لتعليمات الصندوق، وكانت النتيجة إغراق أسواقها بالمنتجات الأوروبية الذي أضر بالغ الضرر بالمزارعين، كما رضخت زامبيا لشروط الصندوق، وأزالت التعريفة على وارداتها من الملابس التي كانت تعمل بها نحو 140 شركة محلية للملابس، وخلال فترة قصيرة لم يتبق من هذه الشركات المحلية سوى ثماني شركات فقط.

 

أهداف الألفية الأممية، الضحية المسكوت عنها

كحصيلة لغياب التمويلات اللازمة من البنوك العالمية، وتعسف سياسات صندوق النقد الدولي، باتت الدول النامية المطالبة بتنفيذ الأهداف الأممية بحلول العام 2030 واقعة تحت أوهام شعارات براقة، بينما هي في الواقع تتعرض لاضطهاد كبير في تعاملاتها مع النظام الاقتصادي العالمي الراهن.

لقد اعترفت قمة باريس بفشل الهيكل المالي العالمي في مهمته لتوفير شبكة أمان عالمية للدول النامية، مع تراجع معظم المؤشرات التنموية، وزيادة عدد سكان العالم الذين يرزحون تحت خط الفقر المدقع منذ فترة ما بعد الجائحة بجانب ارتفاع عدد الشباب خارج المدارس ممن هم في سن التعليم، ووجود 400 مليون نسمة ليس لديها إمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية.

وذكرت أن هذه الأرقام توضح أن مسار التنمية العالمي في خطر، ويحتاج الأمر إلى إعادة نظر جذرية تأخذ في الاعتبار التفاوت أو عدم العدالة في توجيه التمويلات وآليات التعاون والتنسيق بين الدول.

وقالت إن نسبة 97% من سكان العالم المهددين بمخاطر المناخ موجودون في البلدان النامية، بينما تأتي أغلبية الانبعاثات من البلدان المتقدمة.

وأشارت إلى تفاوت في التمويلات بين الدول، وبالتالي فإن المطروح في هذه القمة ليس فقط الإقرار بالفشل، وضرورة تعديل المسار ولكن البحث عن آليات وحلول لجهات التمويل، وهذا سيكون عبر تطبيق الالتزامات القديمة التاريخية التي أخذتها الدول المتقدمة منها إتاحة نسبة 0.7% من ناتجها المحلي وإعطائه إلى البلدان الأقل فقرا، أو الالتزامات المتعلقة بالحد من الاحتباس الحراري التي أقرت في قمة باريس 2015 ونسبة التمويلات المناخية.

إن أكبر دليل على مماطلة الدول الغنية، بل ومواصلة اندفاعها لاستغلال الدول النامية، وعجزها عن مساعدة هذه الدول إن الأمم المتحدة وضعت في العام 2000 ثمانية اهداف أممية للتنمية هي: القضاء على الفقر المدقع والجوع وتحقيق تعميم التعليم الابتدائي وتعزيز المساواة بين الجنسين وتمكين المرأة وتقليل وفيات الأطفال وتحسين الصحة النفسية ومكافحة فيروس نقص المناعة البشرية الإيدز والملاريا وغيرهما من الأمراض وكفالة الاستدامة البيئية وإقامة شراكة عالمية من أجل التنمية.

وعندما حان العام 2015 وهو موعد تحقيق هذه الأهداف تفاجأ العالم بإضافة 9 أهداف جديدة إليها ليصبح مجموع الأهداف المطلوب تحقيقها لغاية العام 2030 ما مجموعه 17 هدفاً، حيث تمت إضافة أهداف جديدة مثل المناخ والطاقة والمياه والعمل اللائق. وهذا يعني بكل بساطة إن مشاكل العالم تفاقمت تحت قيادة سياسات الدول الغنية ومؤسساتها المالية وغياب العدالة عنها.

وهنا نكتفي باستعراض ما جاء في تقرير التنمية المستدامة العالمي لعام 2023 والذي يستعرض ما تحقق على صعيد تنفيذ أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر بعد مضي نصف المدة على إطلاقها، حيث يقول بالنص إن العالم ليس على المسار الصحيح لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs ) فقد تحقق بعض التقدم مثل نشر تقنيات خالية من الكربون كواحدة من العديد من استراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ بينما توقف التقدم في العديد من المجالات  نتيجة تلاقي الأزمات – الوباء المستمر، وارتفاع التضخم وأزمة غلاء المعيشة، والضائقة الكونية والبيئية والاقتصادية، إلى جانب الاضطرابات الإقليمية والوطنية، والصراعات، والكوارث الطبيعية. ونتيجة لذلك، تعطل التقدم العام نحو خطة عام 2030 وأهداف التنمية المستدامة بشدة في السنوات الماضية.

ويضيف إن العالم وفي منتصف الطريق لخطة التنمية المستدامة لعام 2030، هو بعيدًا عن المسار الصحيح. وبدون تصحيح المسار وتسريعه بشكل عاجل، ستواجه البشرية فترات طويلة من الأزمات وعدم اليقين – التي ينجم عنها ويعززها الفقر وعدم المساواة والجوع والمرض والصراع والكوارث. على المستوى العالمي.

ويقول التقرير أنه إذا ظل العمل على تحقيق الأهداف الأممية على وتيرة النمط الحالي ستظل أهداف التنمية المستدامة بعيدة المنال بحلول عام 2030 أو حتى عام 2050. وسيتم تحقيق مكاسب ضئيلة للغاية في المجالات الرئيسية بما في ذلك الحد من الفقر المدقع وتلوث الهواء والآثار الصحية المرتبطة به، واستخدام المياه الزراعية، وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والتنوع البيولوجي واستخدام النيتروجين.

 

ما الذي يجري وما هو المطلوب

يجب القول بكل وضوح إن قمة باريس تندرج في إطار محاولات النظام الرأسمالي العالمي لتحسين أدوات استغلاله للعالم، وتشخيص مواضع الضعف لكي يتم معالجتها بما لا يلحق الضرر الكبير بهذا النظام فيما لو تراكمت الأزمات العالمية وتفجرت ثورات الشعوب ضد أنظمتها الفاسدة.

إن قمة باريس تسعى لإعطاء روح جديدة للنظام الرأسمالي وتجديده من داخل منظومته الاقتصادية والمالية، وليس وضع بديلا عن هذه المنظومة.

ويجب التنويه هنا إن هذه المحاولات ليست جديدة، ولكن تسلط الضوء على الفشل الذريع الذي لاقته المحاولات السابقة.

لقد سمح تفكك الاتحاد السوفييتي وهيمنة القطب الواحد في مطلع تسعينات القرن الماضي لصعود جارف وكاسح لتيارات العولمة، وتلونت أشكال هيمنتها الاقتصادية ثم المالية ثم الرقمية والمعرفية، من اختراق نماذج التنمية في العالم الثالث بما فيها الوطن العربي وتفكيك منظومة المصالح الوطنية والقومية لمصلحة الشركات المتعددة الجنسيات والكارتلات الكبرى، وأوقعت معيشة المواطنين اليومية تحت هيمنة رأسمال وطني يتسم العديد من أطرافه بالبشاعة والفساد والارتباط بخدمة تحالفاته العالمية على حساب المصالح الوطنية والقومية.  

لقد كانت تيارات العولمة جارفة لمصالح الشعوب المستضعفة، بما فيها فئات واسعة في الدول الصناعية التي تقود هذه التيارات. لذلك، شهدنا خلال العقد الماضي تحولات هامة أبرزها تزايد ما يشبه الردة على تيار العولمة التي حققت ثروات هائلة للطبقات السياسية – الاقتصادية – المالية الحاكمة والمتنفذة في حين خلفت مئات الملايين من الفقراء الذين ازدادوا فقراً وبؤساً. فقد نجم عن تيار العولمة الجارف ارتدادات عنيفة باتت تهدد مرتكزات وكيانات الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تمثلت في صعود التيار الشعبوي المدافع عن المصلحة الوطنية أولا والرافض للتكتلات والاندماجات الاقتصادية والتجارية الإقليمية والتي تجلت أبرز مظاهرها في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وفوز ترامب بالرئاسة الأمريكية وصعود تأثير قوى اليمين المتطرف في عدد من الدول الأوروبية.

وبعد نشوب الأزمة المالية العالمية في العام 2008 اعترف دهاقنة صندوق النقد الدولي بتراجع التأييد العالمي للعولمة. وتصاعدت الدعوات منذ ذلك الوقت وحتى قمة باريس الأخيرة إلى، ليس عن التخلي عن العولمة، بل عن مسار جديد للعولمة بعناوين براقة وفضفاضة مثل “التنمية التي تشمل الجميع” والتنمية الاحتوائية” التي يجب أن تحوي تحت مظلتها فئات أوسع من المواطنين والشعوب وغيرها من الشعارات.

إن على القوى الوطنية والقومية التقدمية والمثقفين والاقتصاديين أن تكثف وتصعد جهودها ونضالاتها لفضح المحاولات المستمرة للرأسمالية العالمية، وأخرها ما جرى في قمة باريس، من أجل مواصلة نهب خيرات العالم الثالث والهيمنة على مقدراته. إن هذه المحاولات سوف تتواصل وبوتيرة أسرع خلال المرحلة المقبلة نتيجة الدور والنفوذ الاقتصاديين المتعاظمين وخاصة للصين وروسيا دوليا، الذي يطرح بدوره بدائل أمام الدول النامية للخلاص ولو جزئيا من هيمنة النظام الرأسمالي.

إن التراجع النسبي في النفوذ والهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد العالمي من جهة وتعاظم دور القوى الاقتصادية العالمية الجديدة من جهة أخرى يجب أن يشكل فرصة للتحرر من كافة أشكال التبعية والتخلف.

وبطبيعة الحال، فأن القوى الوطنية والقومية التقدمية العربية تعي جيدا إن تحقيق ذلك مرتبط ارتباطاً جدلياً بنضالها من أجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطني، والدفع بكافة أشكال التكامل بين الأقطار العربية وتشجيع قيام أي شكل من أشكال التكتلات والتحالفات الموجهة لتعزيز الإرادة العربية.

 

 

Author: nasser