رمزية القيادة القومية في تجسيد الفكر القومي ووحدة النضال العربي

رمزية القيادة القومية

في تجسيد الفكر القومي ووحدة النضال العربي

 عبد الواحد علي

اذا كان هناك من قاسم مشترك تشترك فيه كل مؤامرات استهداف الامة العربية في التاريخ الحديث، الظاهر منها والمخفي، فإنه منع توحيد هذه الأمة بأية طريقة، والتصدي لأي فكر وثقافة تسعى الى ذلك، واستهداف اية محاولة لوحدة ابنائها عملياُ او رمزياً، سواء على صعيد الدول العربية ونظامها الرسمي او الاحزاب والحركات السياسية.

والباحث المتعمق يجد التخطيط لذلك في العديد من المراجع والوثائق والمؤتمرات و لعل ابرزها هو مؤتمر كامبل بنرمان الذي عقد في لندن عام ١٩٠٥ واستمر لعام ١٩٠٧ والذي دعى اليه رئيس وزراء بريطانيا كامبل بنرمان، حيث رسخت وثيقته ومقرراته الاستعمار الاوربي للوطن العربي بشكل واضح ، اذ اقرّ المجتمعون : ” إنَّ البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار لأنَّه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي الى القارتين الآسيوية والإفريقية وملتقى طرق العالم وأيضا هو مهد الأديان والحضارات والاشكالية في هذا الشريان أنَّه يعيش على شواطئه الجنوبية والشرقية بوجه خاص شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان”. وكان أخطر ما جاء في توصيات هذا المؤتمر  هو الإبقاء على شعوب هذه المنطقة مفككة جاهلة متأخرة، واعتبرتها مصدر تهديد لذا وجبت محاربة أي توجه وحدوي فيها، ولتحقيق ذلك دعى المؤتمر الى اقامة كيان في فلسطين يكون بمثابة حاجز بشري قوي وغريب ومعادٍ يفصل الجزء الإفريقي من هذه المنطقة عن الجزء الآسيوي ليحول دون تحقيق وحدة هذه الشعوب وهي دولة ” اسرائيل “ .

  ويعتبر مشروع بازل الصادر عن المؤتمر الصهيوني الأول في سويسرا في آب 1897، بداية الانطلاقة الأولى لتأسيس الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية.  وأصبح بصيغته النهائية من أهم أُسُس الفكر الصهيوني في القرن العشرين. والمشروع يوضح بجلاء الهدف المركزي والمحوري للحركة الصهيونية في اقامة وطن ” قومي ” لليهود في فلسطين تحت حماية القانون العام. وسمى المؤتمر فلسطين باسمها العربي، و لم يتطرق هذا المؤتمر الى العرب بشكل متقصد لعدم اثارة حفيظة الدولة العثمانية. وذكر كلمة وطن لليهود وليس دولة، حيث يقول هرتزل لاحقاً “انَّهم سيفهمون أنَّها دولة “.

ثم جاءت معاهدة سايكس بيكو في العام ١٩١٧ لتوزيع تركة الامبراطورية العثمانية ولتشكل خطوة اساسية في المشروع الام لاكثر من مائة عام حيث لا يزال ذلك الحدث يلقي بظلاله  الكارثية على أحداث وتطورات ونهضة ووحدة الوطن العربي ، إذ توافقت كل من لندن وباريس وبتزكية من موسكو، على تقاسم مناطق نفوذ “الرجل الأوروبي المريض على ضفاف البسفور ” كما سموه وهو الإمبراطورية العثمانية ، باتفاقية سرية، اشتهرت لاحقاً باسم “سايكس – بيكو”، نسبة لأكبر دبلوماسيين في لندن وباريس والاكثر تأثيراً آنذاك.

وفي ظل تنامي الخطر الاستعماري على الوطن العربي ، تنامى بشكل طردي الحس القومي العروبي الذي توِّج بتأيس حزب البعث العربي الاشتراكي عام ١٩٤٧، فكان تأسيسه الرد العملي على كل حلقات المؤامرة الغربية الصهيونية لتقسيم الأمة والإبقاء عليها ضعيفة متخلفة .

وقد جسد الحزب هذه الوحدة على كافة الأصعدة الأيديولوجية منها والتنظيمية اي على صعيد الفكر والممارسة.

فقد جسّد البعث فكره الوحدوي من خلال عدة مقومات ، منها نضاله القومي الوحدوي،  ومنها قومية قمة الهرم التنظيمي فيه الا وهي قيادته القومية.

 

فعندما تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في العام 1947، ركز على تعزيز فكرة القومية العربية، ودعى الى تحقيق نهضتها على مستوى الأمة، ولم يكن يحمل اتجاهاً قطرياً ضيِّقاً في فكره وعقيدته العربية الأصيلة  ولا في اية ممارسة نضالية له.

فجسّد الحزب في اسمه مفهوم البعث، بمعنى “النهضة” و “الصحوة” و “الانبعاث” ، لبعث مجد الامة العربية وحضارتها التليدة كي تواصل دورها الانساني بين الامم. ودعى الى ان يتم ذلك من خلال تكامل ايديولوجي بين وحدة الامة العربية وتحررها وتحقيق الاشتراكية  فيها.

 ومن هنا يدعو البعث إلى توحيد الوطن العربي في دولة واحدة حيث اعطى هذا الهدف الاولوية بين اهدافه الاستراتيجية الثلاثة وهي “الوحدة، الحرية، الاشتراكية“.

اما على الصعيد التنظيمي فقد رسَّخت كل أدبيات الحزب ودستوره و نظامه الداخلي وحدة البعثيين التنظيمية في عموم الوطن العربي ومن خلال الترتيب الهرمي للتنظيم صعوداً الى اعلى قيادة فيه وهي قيادته القومية التي هي أعلى سلطة في الحزب، وهي المسؤولة عن قيادات الأقطار. وبهذا تكون القيادة القومية لحزب البعث هي التي يقع على عاتقها قيادة الحزب على كافة الأصعدة النضالية منها والتنظيمية والفكرية.

 وتجسيداً لمكانة الوحدة العربية في فكر و جسد الحزب فلم يجعل اعلى قيادة فيه، وهي القيادة القومية، مجرد رمز لا فعل حقيقي له، بل على العكس، فقد حمّلها نظامه الداخلي مسؤوليات كبيرة ، وبالتالي جعلها تمتلك صلاحيات واسعة لقيادة عموم التنظيم في الوطن العربي والمهاجر وقيادة الاقطار، بما فيها حل واستبدال أية قيادة قطرية حتى اذا كانت منتخبة من قِبَل مؤتمر انتخابي شرعي.

وهنا نشير الى قضية هامة جداً وهي أنَّ حزب البعث بامكانه الاستمرار التنظيمي الميداني في أي قطر عربي بدون قيادة قطرية عندما تكون التشكيلات التنظيمية ادنى من ذلك، ولكنَّه لا يستطيع العمل بدون قيادته القومية، لأنَّه بُني وأسِّس على فكرة القومية الشاملة ووحدة الأمة العربية.

ولقد تميز البعث بكل ذلك على كل الاحزاب في الوطن العربي ، فقد جاءت فكرة البعث وتأسيس حزب قومي عربي بعد أن كانت أغلب الاقطار العربية، في مطلع الأربعينيات من القرن العشرين تزخر بتيارات فكرية سياسية كثيرة وأحزاب تمتد من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. ومع ذلك لم يكن في برنامج أيّ منها دعوة واضحة للعروبة أو الوحدة العربية، او بعث حضارة الأمة من جديد. باستثناء طرح أفكار غائمة هنا وهناك يشوبها الغموض وتغيب عنها البرامج العملية، من قبل بعض قادة الفكر المُشبَّعون بالحنين الى ماضي الأمة التليد ، كما أنَّ بعض هذه الأحزاب كان يجاهر بعدائه للقومية العربية.

ومع انتشار المد الشيوعي وغيره من احزاب وتيارات والتي كانت جلّها تمثّل أفكار بعيدة عن روح العروبة وعن الواقع العربي، ومعاناة الأمة وتعتمد على نقل حلول ما هي الا قوالب جاهزة منقولة من الخارج وغريبة عن واقعنا العربي ، فكان لابدّ من قيام حزب جديد ينتشل العرب من واقعهم  المتخلف والفاسد، ويؤسّس لثورة في كيان الأمة الذي يعيش التردي والانحطاط السياسي والاقتصادي والثقافي والعلمي. ومن ثم  يملأ الفراغ ويسدُّ النقص في الأيديولوجيات والحركات والاحزاب القومية، التي تحل محل الأحزاب الموسمية الزائلة. ومن هنا جاء تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي استجابة جوهرية لحاجة تاريخية سياسية فكرية اقتصادية واقعية .

وقد اعتمد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب على ثلاثة مبادئ:

الأول هو أنَّ (العرب أمة واحدة لها حقها الطبيعي في أن تحيا في دولة واحدة).

والثاني هو أنَّ شخصية الأمة العربية (تتسم بخصب الحيوية والابداع، وقابلية التجدد والانبعاث).

أما الثالث فهو أنَّ (الأمة العربية ذات رسالة خالدة…ترمي الى تجديد القيم الانسانية، وتحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الأمم).

ومن مبادئ الحزب أيضاً أنَّه (قومي يؤمن بأن القومية حقيقة حية خالدة … والفكرة القومية التي يدعو اليها هي ارادة الشعب العربي في أن يتحرر ويتوحد….). كما أنَّ من مبادئه تحقيق العدالة الاجتماعية وحشد موارد الأمة بشكل مركزي وتوجيهها لخدمة هدف نهضتها، لذلك اصبحت الاشتراكية احد اهدافه الاستراتيجية فامن بأنَّ (الاشتراكية هي النظام الأمثل الذي يسمح للشعب العربي بتحقيق امكاناته…. على أكمل وجه).

ولكن منذ انطلاق مؤتمر كامبل فان اية محاولة لتوحيد الامة العربية يتم استهدافها  كما يتم استهداف اي فكر وحدوي. لذا فليس من الغرابة ان يتم استهداف اكبر واقوى حزب وحدوي وهو حزب البعث العربي الاشتراكي . وقد تميّز هذا الاستهداف بانه متنوع الوسائل وتعددها، بين استهداف الدولة الوحدوية او استهداف رموز البعث او تشكيلاته القيادية وفي قمتها القيادة القومية، لان كل ذلك يخدم اعاقة الوحدة العربية واية صيغة رسمية او شعبية لها حتى وان كانت رمزية ، وكل ذلك خدمة لمقررات مؤتمر كامبل بنرمان سئ الذكر. 

وقد شهد التاريخ العربي المعاصر ومنه تاريخ الحزب حلقات من ذلك الاستهداف، تارة على شكل انقلابات وتارة محاولات لشق الحزب وتارة استهداف لرموزه.

من التجارب الانشقاقية الفاشلة التي حاولت ضرب بنية الحزب من خلال التجاوز على رموزه الممثَلة بالقيادة القومية هي ما سمي بالحركة التصحيحية التي تزعمها حافظ الأسد، والتي أدعى فيها عبر كلمته التي ألقاها في المؤتمر الاستثنائي لقوى الرّدة والانشقاق في دمشق أوائل أيلول عام 1967، ان الاولوية هي ” للتحرر الوطني” ، تحت ذريعة تحرير الجولان، التي لم يتم التقرب منها او تحرير شبر واحد فيها، فتنكَّر بذلك لفكر وتوجهات البعث القومية ، رغم ان المهمة الوطنية لتحرير الجولان هي مهمة قومية بامتيازو لا تتعارض مطلقا مع مبادئ البعث القومية وأهداف الحزب في الوحدة والحرية والاشتراكية.

 ولو تعمقنا بالاسباب التي تقف وراء كل محاولة انشقاقية نجد ان العوامل المحركة لها تخدم أهدافاً ونوايا شخصية او تقف وراءها نوازع قطرية لكنها تُغطى باغطية سياسية سرعان ما ينكشف زيفها  وتعرف حقيقة الاسباب الحقيقية للانشقاق بعد ان يكون قد مني بفشل ذريع لتغيير مسار حزب البعث وأفكاره القومية ، وهو ما سيكون عليه مصير أي حركة تمرّد وانشقاق أخرى تحاول تجاوز فكر البعث الوحدوي و قيادته الشرعية.

فقد فشلت وتلاشت محاولات أخرى في اقطار عربية منها العراق، مثل محاولة الانشقاق التي قادها علي صالح السعدي، لأنَّ جذور البعث قومية عربية وحدوية عميقة، وتنظيمه وتشكيلاته القيادية محكمة يدعمها نضالها الميداني الضروس مما يجعلها حصينة ضد أي محاولة انشقاق او زعزعة الصفوف.

 واستناداً الى ذلك ، نتبيَّن أنَّ القيادة القومية هي الحارس الامين وهي الداعم والراعي للوحدة العملية والفكرية  للبعث، ولوحدة التنظيم القومي ، وهي رمز لوحدة الامة التي هي الأمل المنشود لكل ابنائها وعلى رأسهم البعثيين.

فالوطن العربي هو وحدة سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية لا تتجزأ ولا يمكن لأي قطر من الأقطار العربية أن يستكمل شروط نهضته ووجوده ومستقبله منعزلاً عن الأقطار العربية الأخرى، لذا يناضل الحزب لجمع شمل العرب الذين يعيشون الشُتات والتجزئة، وتحقيق تكاملهم وان كان على مراحل ، في دولة عربية كبرى مستقلة واحدة.

والبعث لا يمكن أن يتجزَّأ، فهو واحد بفكره وأهدافه ومبادئه وتنظيماته، والبعثي الحقيقي الملتزم هو المنضبط وجدانياً وروحيّاً وسلوكياً وأخلاقيا بمبادئ الحزب ونظامه الداخلي، وأنّ أي تقافز على تلك المبادئ ستخرج البعثي من بعثيته الحقيقية ليصبح عنصراً منتسباً وحسب، بل الاخطر من ذلك انه سيكون أبعد ما يمكن عن مشروع البعث العربي القومي الشامل. فلقد بُنيَ البعث على مفهوم وفكر قومي بعيداً عن القطرية ، وجعل أعلى سلطة فيه هي القيادة القومية، الحارس الأمين لوحدة الأمة العربية، وقائدها نحو تحقيق أهدافها و رسالتها الخالدة .

ومن هنا فإنَّ أيّ استهداف للقيادة القومية ككيان، هو استهداف بوعي او بدون وعي لوحدة الأمة العربية وحريتها ، اي لجوهر فكر البعث، وهو يصب في خدمة المشروع الصهيوني الغربي ضد وحدة الأمة العربية ونهضتها، منذ مؤتمرات بازل وكامبل، مرورا بمعاهدة سايكس بيكو لترسيخ تفتيت الأمة والاستيلاء على مقدراتها وابقائها تحت خط الفقر والجهل والتخلف .

Author: mcLuGWLRpf