العلاقة الجدلية بين ثوابت البعث
الفكرية والتنظيمية والقيم الأخلاقية
حسن خليل غريب
تمهيد
إن حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب الأول في التاريخ العربي الذي أطلق الاهداف الاستراتيجية الثلاث، الوحدة والحرية والاشتراكية، التي شكلت ثوابت فكرية اساسية، واعتبر أنه بالعمل من أجلها يحمل الخلاص للأمة العربية. واعتبر كذلك أنه لتنفيذ تلك الثوابت لا بد من وجود عمل منظم يحققه تأسيس حزب يحمل على عاتقه النضال من أجلها. ولن يستطيع الحزب أن يتابع رسالته الفكرية من دون وجود بعثيين يؤمنون بتلك الأهداف. وعلى هؤلاء البعثيين أن يكونوا متميزين عن البيئة الاجتماعية والثقافية السابقة. تلك الأجيال العربية ورثت تربية اجتماعية وثقافية تقليدية كانت تصب في مصلحة الأنظمة السياسية الحاكمة طوال التاريخ العربي الطويل. فلذلك أولى
المؤسسون الأوائل أهمية كبيرة من أجل تأهيل الفرد الحزبي ليصبح على مستوى من يحمل رسالة حزبه بأهدافه الثلاث. لكل ذلك، وكما أن للحزب ثوابت فكرية لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، له أيضاً ثوابت تنظيمية على كل فرد من ابناء الامة يريد الانتساب إليه أن يمتلكها، لتضبط حركة الحزب في حياته الداخلية.
ومن أجل ذلك، كان النظام الداخلي حاجة لا بُدَّ منها لضبط الحركة الداخلية للحزب. ولذلك تمت تسميته بالنظام الداخلي الذي يعني أنه مخصص للبعثيين وليس لغيرهم. ولهذا وإذا لم يلتزم البعثي بضوابط النظام الداخلي يعني هذا أنه خرج عن أصول التنظيم الداخلي الذي أقسم أنه سيلتزم بها طالما لم يتم تعديله في الموقع المحدد له، أي في المؤتمر القومي. كما وأنه تنوب القيادة القومية، في ظل غياب المؤتمر، بصلاحية الاجتهاد في النصوص المتشابهة إذا وجدت، أو الاجتهاد في بعض النصوص في ظروف استثنائية تحصل في بعض الأقطار، بحيث تعمل القيادة على الاجتهاد فيها على أن تكون مسؤولة عن اجتهاداتها أمام المؤتمر القومي.
وتالياً سيكون هذا المقال البحت في الثوابت التنظيمية، والتي سنحصرها في شقين رئيسين، نظري تنظيمي، ونظري أخلاقي.
أولاً: الثوابت النظرية التنظيمية
غالباً ما تكون مواد النظام الداخلي للحزب محددة تحديداً علمياً، من السهل على الفرد الحزبي أو على القيادات صعوداً ونزولاً أن يحددوا مواطن الخلل في سلوك العضو الحزبي. ولذلك، وللمزيد من تعميق الثوابت التنظيمية، سنلقي المزيد من الأضواء على تلك الثوابت، لعلَّنا نقدمها في صورة أكثر ما يمكن من حالات الوضوح نظرياً وعملياً.
الثابت الأول: الحزب عمل منظَّم يصهر الأعمال الفردية في عمل جماعي
إن الحزب مجموعة من الأفراد، آمنوا بمبادئ مشتركة وتوافقوا على تحقيق أهداف فكرية محددة اقتنعوا بها، وتوافقوا على تنفيذها. ولأن الاهداف كبيرة لذا فان تحقيقها يتطلب العمل الجماعي. وبما ان لكل فرد من المجموعة شخصيته المتميزة ثقافياً ونفسياً واجتماعياً، يصبح من الصعوبة بمكان أن يتوافقوا على كل شيء، خاصة أن التوافق الفكري بكل تفصيلاته لن يكون متطابقاً كلياً عند الجميع، وأن خطط تنفيذ الأهداف الفكرية قد لا تنال موافقة الجميع أيضاً. لذلك قد تواجه المجموعة الحزبية الكثير من الافتراقات في التفاصيل. ولهذا يقتضي أن يضعوا قواعد وأسساً تنظم عملهم، تضع حدوداً للافتراقات وسقوفاً للتوافقات لتمضي المسيرة قدماً نحو تحقيق الاهداف.
فالحزب عمل منظَّم، ولكل عمل منظَّم قوانين وقواعد على أساسها يتم توحيد الرؤى النظرية وآلياتها التنفيذية. ولكن عملية التوحيد تتم على قاعدة أن تشجع القيادات على شتى مراتبها، المبادرات والابتكارات الفردية من جهة. وعلى المتميزين بأفكارهم وأدوارهم أن يعوا بأن أعمالهم الخلاقة تصبح كما لو أنها ملك للحزب. فيضعوا أفكارهم أمام القيادات المختصَّة، التي إما أن تقوم بالموافقة عليها كاملة، أو تقوم بتعديل بعض تفاصيلها وتغنيها. وإما أن ترفضها إذا لم تكن مفيدة. وعن ذلك نصَّت المادة (4)، من النظام الداخلي على ما يلي: (… يحل الحزب محل الشخص، وتحل المصلحة الحزبية محل المصلحة الشخصية، ويحل القرار الحزبي محل الرأي الشخصي ويحقق هذا النظام بروحه ونصوصه..).
الثابت الثاني: الحياة الداخلية للحزب تجمع بين مبدأيْ الالتزام والإلزام، أي بين ممارسة الحقوق والواجبات
1. شروط الالتزام والحقوق في حرية الاختيار:
أ. الانتساب للحزب التزام وليس إلزاماً، والالتزام هو أحد ثوابت الحرية، وإذا حصل الالتزام من قبل المنتسب للحزب، فعليه منذ تلك اللحظة أن يُلزم بما تتخذه مؤتمرات الحزب وقياداته من قرارات.
ب. حرية الانتماء للحزب حق لكل عربي: نصت مقدمة المادة (7)، على أنه (لكل مواطن أو مواطنة في الوطن العربي، ولكل عربي أو عربية في المهجر الحق في طلب الانتماء للحزب)… ومبدأ حرية الانتماء، يعني الالتزام الطوعي من دون قسر، ترهيباً أكان أم ترغيبا.
بعد تأكيد النظام الداخلي على عامل الالتزام الطوعي للانتماء للحزب، وضع ضوابط واضحة أمام كل من يريد الالتزام الطوعي. وهذا أمر لا يمكن تجاهل أهميته في العمل الجماعي بين أفراد يتميز بعضهم عن البعض الآخر بالسمات والملكات والمهارات الشخصية. ومن أهمها، أن العمل الجمعي يقتضي وضع ضوابط لحدود حرية من انتمى للحزب حتى لا يطغى على حرية الآخرين.
2. شروط الإلزام والواجبات في تنفيذ القرارات:
لكونها مبادئ أساسية في بنية النظام الداخلي، وحتى لا تكون الحرية فوضى، تفتأت على حقوق الآخرين من أعضاء الحزب، فقد وضع النظام الداخلي شروطاً، ومن أهمها الحرية للمشاركين في العمل الجمعي نسبية (مقيَّدة)، وذات علاقة برأي الأكثرية وكما مبين أدناه:
أولاً، استند الحزب إلى مبدأ إنساني عام باعتبار الحرية مقدسة، وهذا ما تؤكد عليه، الفقرة (1) من المبدأ الثاني من الدستور: (حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنتقصها).
وثانياً، واحتراماً لحرية الفرد داخل الجماعة، ولأن للآخرين حق بالحرية أيضاً، ولكي لا يتجاوز الفرد حرية الآخرين، كان لا بُدَّ من اعتبار الحق بالحرية الفردية حقاً مقيَّداً بمنع تجاوزه على حرية الآخرين. وهذه القيود تقتضي أن يفهم كل فرد الحرية على الشكل الذي جاء في الفقرة 2، من المادة (4): (فهم الحرية فهماً إيجابياً حزبياً نقيضاً للفوضى، يهدف إلى البناء عند ممارستها لا الهدم، ولا تمارس الهدم لذاته، أو من رغبة شخصية، وتكون هذه الممارسة ضمن تشكيلات الحزب وهيئاته مع مراعاة دقيقة لمبدأ التسلسل الحزبي). ومن أجل الوصول إلى قرارات بين أفراد متعددي الآراء والمواقف، نصَّت الفقرة (3) من المادة (4)، على (اعتبار رأي الأكثرية في أية منظمة حزبية مختصة، وبشأن أي أمر، هو رأي الحزب فيه، ورأي الأكثرية هو المقياس الوحيد لمصلحة الحزب وموقف الحزب منه).
وبناء على ذلك، اعتبرالنظام الداخلي للحزب أن رأي الأكثرية يمثِّل رأي الحزب. وإذا كان فيه إلزام للأقلية، ففيه التزام حر أيضاً، لأن الأقلية وافقت على مندرجات النظام قبل أداء القسم الحزبي. ولذلك يصبح مبدأ الالتزام برأي الأكثرية ثابتاً من ثوابت العملية الديموقراطية، إذ قلَّما يتم الإجماع على قرار واحد. ولأن عملية التنفيذ مسألة مطلوبة في القضايا التي على الحزب أن يلعب دوراً فيها، كان لا بُدَّ من وضع معيار يسمح باتخاذ القرارات، فكان مبدأ (القرار للأكثرية) هو المعيار الثابت في حياة الحزب الداخلية.
ثانياً: الثوابت النظرية الأخلاقية
لا تخضع الأخلاق للمعايير الحسية الملموسة، وقد يمكن للفرد أن يُبطن ما لا يعلن. بل يمكن تحسسها واستنتاجها من خلال السلوكيات. ولأن موضوع مقالنا يرتبط بالجانب الأخلاقي ذي العلاقة بالحياة الداخلية للحزب، يمكننا حصراً أن نلقي الضوء على الجانب الأخلاقي بما يمس حياة الحزب الداخلية، لأن الحياة العامة للفرد داخل مجتمع مفتوح في حياته الاجتماعية قد تكون بعيدة عن ملاحظة الجهاز الحزبي، ولذلك لا يمكن لهذا الجهاز أن يُحكم على المستوى الأخلاقي الاجتماعي للبعثي بأكثر من ملامسة مستواه الأخلاقي العام من خلال ممارساته، وعلاقاته مع رفاقه، سواءٌ اكانت العلاقة من موقعه الأدنى في الحزب أم كانت من موقعه الأعلى في القيادات الحزبية.
يمكننا أن نحدد بعض الثوابت الأخلاقية التي على البعثي أن يتعمَّق فيها، ويحترمها في حياته الحزبية، وعياً نظرياً، وتنفيذاً عملياً:
1. احترام القسم الذي ردَّده قبل انتمائه للحزب:
من أهم الأولويات الأخلاقية التي التزم بها العضو العامل، هي أن يقسم من قُبِلَ عضواً، اليمين الآتية: (أقسم بالله العظيم وبشرفي ومعتقدي أن أكون وفياً لمبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي حافظاً لعهده، متقيداً بنظامه، منفذاً لخططه، محافظاً على أسراره، حريصاً على وحدته الفكرية والتنظيمية).
لذلك قبل أن ينخرط البعثي في صفوف الحزب، يُعتبر ترديده للقَسَم التزاماً طوعياً، بكل ما جاء في النظام الداخلي. وأليس أكثر تحدياً أخلاقياً يواجه الإنسان، أي إنسان، في أن لا يلتزم بتنفيذ أمر أقسم على أن يقوم به؟.
2.احترام المبدأ الاشتراكي:
لأن الحزب يدعو إلى التآخي بين الذين يعتبرونه أساساً (للمساواة والتآخي الوثيق بين أفراده)، نصت المادة (4) من النظام الداخلي للحزب، على أن: (حزب البعث العربي الاشتراكي… يؤمن بأن الاشتراكية … النظام الأمثل الذي يضمن للامة نمواً مطرداً … وتآخياً وثيقاً بين أفرادها).
3. احترام الشعب، لأن أهداف الحزب الأساسية هي النضال من أجل الشعب:
فيوليه الاهتمام الأول، من حيث مصالحه، وتربيته تربية عقلية ووطنية وأخلاقية. وعن ذلك، جاء في المادة (5): (حزب البعث العربي الاشتراكي … يعتمد … في أداء رسالته على الشعب … ويعمل على رفع مستواه العقلي والأخلاقي).
4. احترام مبادئ الحزب، بدستوره ونظامه الداخلي:
وذلك بالعمل على تحقيقها استناداً على ما جاء في النظام الداخلي، وخاصة:
أ- بما نصت عليه الفقرتان (1) و(3)، في المادة (7): (ا- أن يكون مؤمناً بعقيدة الحزب وأهدافه ومنهاجه وسياسته ونظامه الداخلي، ومستعداً لتنفيذ قراراته). وعلى (3-أن يجسد في نشاطه وسلوكه مبادئ الحزب وأخلاقيته).
ب- وأيضاً بما جاء في الفقرة (1)، من المادة (13): يلتزم العضو العامل بـ: (النضال وفق منهاج الحزب وخططه لتحقيق أهدافه وقرارات مؤتمراته وتوصياتها وتنفيذ قرارات وأوامر المنظمات الحزبية المختصة بكل أمانة ودقة).
5. احترام قرارات القيادة القومية لموقعها القومي المركزي الضامن لوحدة الحزب القومية:
لقد اعتبرت المادة (44)، أن (القيادة القومية هي أعلى هيئة قيادية في الحزب في غياب المؤتمر، وتتحدد مهامها في مجال الفكر، ورسم استراتيجية نضال الحزب، وسياسته القومية، والنضال على الساحة الدولية، والإشراف على التنظيم القومي دون الدخول في التفاصيل إلا فيما يشكل انعكاساً على وحدة الحزب).
ولأنها منتخبة من قبل المؤتمر القومي الذي يتمثَّل فيه كل البعثيين في الوطن العربي، على البعثيين أن يمنحوها الثقة، ويلتزموا بقراراتها لأنها رمز لوحدة الحزب على المستوى القومي. وفي ظل صعوبة انعقاد المؤتمر القومي نتيجة لظروف قاهرة ، ومن أجل إملاء الفراغ في الهيئة القيادية القومية بما يتركه من خلل في إدارة التنظيم القومي وقيادته، يجوز للقيادة القومية أن تأخذ على مسؤوليتها اللاحقة أمام المؤتمر القومي قرارات بالتعيين. وقد يتذرَّع البعض بمسألة تعيين بعض أعضائها للطعن بشرعية التعيين، غير آخذين بعين الاعتبار الظروف الاستثنائية التي حصل فيها التعيين، وخاصة في هذا الظرف العصيب والاستثنائي الذي يمر به الحزب منذ اكثر من عشرين سنة بعد احتلال العراق وانتشار الحروب الأهلية في أكثر من قطر عربي من جهة أخرى.
ثالثاً: العلاقة العضوية بين ثوابت البعث الفكرية والتنظيمية والقيم الأخلاقية
كما أنه على الإنسان في حياته العادية، أن يكون عضواً في مجموعة بشرية، ابتداء من أسرته الصغيرة وانتهاء بكونه فرداً في المجموع الإنساني العام، يلتزم بعاداتها وتقاليدها ودوره في عمليات المشاركة بالإنتاج لمصلحة المجموعة، وإذا شذَّ عنها يُتهم بالضلال أي الخارج عن جماعته. كذلك على البعثي أن يلتزم بقوانين وأنظمة الحزب لكي لا يُعتبر شاذاً عن رفاقه البعثيين.
وليست الأخلاقية في أن يلتزم التزاماً أعمى، بل أن يلتزم التزاماً واعياً وفعَّالاً، وهذا ما أشار إليه النظام الداخلي، في الفقرة (15) من المادة (13)، وذلك: بـ(ممارسة النقد والنقد الذاتي، وحرية التفكير، في تنظيماته الحزبية على أن يجري في الاجتماعات الحزبية النظامية، أو التقدم به كتابة إلى المراجع القيادية عن طريق التسلسل الحزبي، وان يكون النقد بنَّاءً وموضوعياً بهدف التقويم والتطوير).
وعامل الأخلاقية في نص الفقرة (15)، يأتي من خلال مبدأين متلازمين:
- الأول: ممارسة النقد والنقد الذاتي، وحرية التفكير، كمبادئ للحرية والديموقراطية، هو أن النظام الداخلي يلزم البعثي في ممارسة حرياته، فقط إما داخل الاجتماعات الحزبية، أو التقدم به كتابة إلى المراجع القيادية.
- والثاني: أن يكون النقد بنَّاءً وموضوعياً، وتجريم التشهير، سواءٌ أكان التشهير بالحزب، أم كان التشهير بمن انتسب إليه. لأنه أولاً وقبل أي شيء آخر، يخالف بشكل صريح مضمون القَسَم الحزبي الذي ردَّده البعثي قبل اعتباره عضواً عاملاً فيه. ومن أجل إعادة تثبيته والتذكير به، نختتم المقال بإعادة نشر نصه، كما جاء في النظام الداخلي للحزب:
(أقسم بالله العظيم وبشرفي ومعتقدي أن أكون وفياً لمبادئ حزب البعث العربي الاشتراكي حافظاً لعهده، متقيداً بنظامه، منفذاً لخططه، محافظاً على أسراره، حريصاً على وحدته الفكرية والتنظيمية).