في ذكرى رحيل البعثي الأول في مصر (جلال أمين) المفكر الملتزم بقضايا مجتمعه وأمته العربية
في هذه المرحلة، وأكثر من أية مرحلة أخرى، تتكالب قوى عالمية، دولية وإقليمية، أنظمة سياسية وحركات سياسية دينية، للإجهاز على الفكر القومي العربي.ويعود تاريخ قرار إعدام أي مولود وحدوي عربي، حتى قبل أن يولد، إلى أكثر من قرن من الزمن؛ وتحديداً إلى العام ١٩٠٥ – ١٩٠٧، وهو تاريخ انعقاد مؤتمر بانرمان.في ذلك المؤتمر – المؤامرة، الذي شاركت فيه منظومة دول الاستعمار الأوروبي وبحضور صهيوني فاعل، قرر المؤتمرون، على أعتاب صياغة مخططهم بإسقاط الرجل التركي المريض، أن الشعب العربي يشكل الخطورة الأولى على مصالحهم، ولذلك لابد من منعه من التفكير بأية وحدة.وكان السبب، كما وصفته مقررات المؤتمر، هو أن الشعب العربي في المنطقة العربية، التي كانت خاضعة للإمبراطورية العثمانية، تجمعه وحدة اللغة والتاريخ والحضارة والدين، وهي عوامل كافية لتشكيل الجاذب القومي العربي كأساس لقيام وحدة عربية، وهذا ما اصبح يخيف تلك الدول من أي اتجاه وحدوي يمكن أن يخطر على بال العرب. فقرروا منع هذه الوحدة، بزرع الكيان الصهيوني بين الجزئين الآسيوي الأفريقي من جهة، وإبقاء العرب في جهل تام من جهة اخرى ، عن طريق منع اكتسابهم أي عامل من عوامل النهضة والحضارة والتقدم .
وإذا كانت المقررات سياسية فإنما تنفيذها يتم باستئصال أي توجه فكري قومي.ولهذا عاصر العرب مراحل مهمة من تاريخهم الحديث محاولات لتوسيع مروحة المعادين للفكر القومي العربي .
إن هذا الواقع، ينير أمامنا سبل العمل الجاد والدؤوب للدفاع الحثيث والمستمر من أجل إبقاء شعلة العروبة مضيئة، ولا سبيل آخر يمكن أن تكون له الأولوية في نضال البعثيين بشكل خاص، والقوميين العرب بشكل عام من ذلك .
ولعل اصدار أحكام الاجتثاث بحق ( فلسفة البعث ) ، وملاحقة كل من يعتنق فكر البعث بشتى الوسائل وابشعها، و قيام أعداء القومية العربية باصدار حكم البراءة بحق كل بعثي يعلن تخليه عن هذا الفكر العروبي الموحِّد، الا ادلة على أن الفكر هو المستهدف وليس الأفراد، وهذا ما يدفعنا إلى الاستنتاج بأنه طالما ظل الفكر القومي حياً، فسوف يظل الخوف يساور أولئك الأعداء ويقلقهم.ولنا في احوال القطر العراقي تحت الاحتلال الغاشم أهم النماذج الصارخة على ذلك واوضحها .
كما ويجري تحريك مشاعر العداء للفكر القومي في كل مكان، وتحت شتى الصيغ ، لعلَّ أهمها وصف كل قومي بأنه يعتنق ( أفكاراً خشبية ). كما وتروج بعض الحركات السياسية الدينية دوما أنه ( ما وجدت القومية إلا لمحاربة الإسلام ). اما الحركات الماركسية التقليدية فتمعن في تشويه الحقائق من خلال اتهامها بأن القومية هي فكر شوفيني من دون الاستناد الى اي وقائع حقيقية تثبت ذلك .
ان كل تلك الأسباب وغيرها تدفع القوميين العرب بشكل عام، والبعثيين بشكل خاص، إلى الإصرار على ابقاء شعلة العروبة وهّاجة.وقد تصدى لتلك الرسالة السامية المفكرون القوميون فحملوا همَّ الفكر القومي على أكتافهم، وحافظوا في كتاباتهم على استمرار تلك الشعلة وهّاجة لتنير الدرب الى اجيال الامة جيلاً بعد اخر .
ولكي تبقى شعلة العروبة منيرة، فإنه من حق المفكرين القوميين علينا أن لا ننساهم، بل أن نقتبس من تاريخهم وعطاءهم الفكري ما يجعلنا نغذي تلك الشعلة لتلهم الاجيال الصاعدة على الاستمرار في حمل راية الامة العربية ومواصلة النضال من اجل التصدي لكل التحديات التي تستهدف وحدتها وحقها الطبيعي في الحياة الحرة الكريمة .
جلال أمين من الرعيل الذي يكتسب هذا الحق
التحق جلال امين في صفوف حزب البعث العربي الاشتراكي في مصر العروبة في الخمسينيات من القرن الماضي مؤمناً بمبادئه في الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والاشتراكية لتحقيق العدالة الاجتماعية ومعتبراً أن فكرة النضال من أجل التغيير، هي حاجة وضرورة لنهضة الامة ، وإذا فقد الإنسان المقدرة عليها، فلا أقل من أن يحاول أن يفهم ما يحدث لتصحيح التجربة والانطلاق نحو المستقبل .
كما اعتبر أن تغيير الواقع العربي يتم عبر معرفة هذا الواقع (( فالمعرفة ليست هي بالضبط تلقي المعلومات بل هي تفرض أيضا فهم هذه المعلومات واستيعابها والربط بينها، ومن ثم فإن من الممكن أن تقل المعرفة بزيادة المعلومات )).ولشدة إيمانه بالتغيير فقد اعتبر أن الثورة هي طريق أساسي للتغيير .
وبداية، لعله من ضرورات الكتابة عن الرواد مثل جلال أمين، وغيره من المفكرين العرب، أن نحدد مفهومنا لمصطلح الثقافة الثورية والمثقف الثوري . فالثقافة الثورية هي الثقافة الملتزمة بقضايا المجتمع خاصة الشرائح الشعبية منه، والمثقف الثوري هو الذي يناضل من أجل الحصول على حقوقها .
وعن ذلك، نرى بين التحصيل العلمي الأكاديمي واكتساب الثقافة الملتزمة بقضايا المجتمع والامة العربية ، مساحات للتلاقي ومساحات للافتراق.ففي مساحات التلاقي يحمل التحصيل العلمي إمكانية التعبير عن قضايا المجتمع وأن يحمل همومه والدفاع عنها.وفي مساحات الافتراق أن يوضع التحصيل العلمي نفسه في خدمة السلطة والنخب الاقتصادية والسياسية حتى ولو كانت على حساب مصالح المجتمع والامة.ويكمن الحل الأمثل بين هذه الشريحة وتلك في أن يحصل التوازن بين الشريحتين : اي زيادة المعرفة العلمية، والتصاق بمصالح المجتمع بأكمله، خاصة الشرائح الفقيرة فيه .
أين يقع جلال أمين في هذه المعادلة؟
جلال أمين ( ١٩٣٥ – ٢٠١٨ ) عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب عربي من مصر.وهو ابن الكاتب المشهور أحمد أمين صاحب كتابى فجر الإسلام وضحى الإسلام وأحد أهم مثقفي النهضة المصرية والعربية الحديثة، ومن ذلك الجيل الفريد الذي ظهر في بداية القرن العشرين مرافقًا لثورة ١٩١٩ في مصر التي نادت بقيام الدولة المدنية المستقلة، و بمراجعة فكرية كبرى للموروث الثقافي والديني، كما أنشأت نهضة هائلة في كافة مجالات الفكر والثقافة العربية، لهذا ليس غريبًا أن يكون الدكتور جلال أمين امتدادًا لذلك الجيل من المفكرين العرب الذين نشأ بينهم .
تخرج جلال امين من كلية الحقوق بجامعة القاهرة في العام ١٩٥٥، وحصل على الماجستير والدكتوراه في الاقتصاد من جامعة لندن.وعاد الى مصر وعمل استاذاً جامعياً في جامعاتها حتى وفاته في الخامس والعشرين من شهر سبتمبر ٢٠١٨ .
خلال حياته الجامعية عالج أهم قضايا المجتمع المصري، وأهم قضايا المجتمع العربي وأزماته السياسية والاقتصادية، وكذلك كتب في القضايا الفكرية العامة، كقضايا التنمية البشرية والاقتصادية وشؤون الدين والدنيا .
وقد نشر العديد من المؤلفات الهامة و من أشهر كتبه كتاب ( ماذا حدث للمصريين ؟ ) الذي ترجم الى لغات عالمية عديدة و يشرح فيه التَّغيُّر الاجتماعي والثقافي في حياة المصريين خلال الفترة من ١٩٤٥ إلى ١٩٩٥، أي خلال نصف قرن من الزمان، ويعزي هذا التغير الملحوظ إلى ظاهرة الحراك الاجتماعي .
ولجلال أمين كتب أخرى مهمة منها «التنوير الزائف» و«العولمة والتنمية العربية» و«المثقفون العرب وإسرائيل» و«عصر الجماهير الغفيرة» و«عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر»، و«كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية» و«فلسفة علم الاقتصاد» و«محنة الاقتصاد والثقافة فى مصر» و«الدولة الرخوة فى مصر» و«شخصيات لها تاريخ»، و«عصر التشهير بالعرب والمسلمين»، و« خرافة التقدم والتأخر » وغيرها .
وقد أثرت كتبه المتعددة، ومقالاته التي حرص على كتابتها بانتظام، في الأجيال المتعاقبة من الباحثين والمثقفين والقراء وخاصة الشباب منهم ، حيث امتلك رؤية عميقة أثناء تحليله للتاريخ المعاصر، وراقب سلوك الناس العاديين خلال نصف القرن الأخير، ببصيرة نافذة، وقدرة فريدة على الرصد والتحليل .
وكان يحتفي كعادته بأفكار الشباب، سواء من اتفق أو اختلف معه.وقد نبع ذلك من حبه للجديد والمختلف .
كانت مشاكل الجماهير العربية وهمومها هي الجامع المشترك بين المستويات القطرية والقومية والفكرية العامة التي تناولها بالبحث والدراسة والكتابة والتنوير .
فأما قضايا المجتمع العربي في مصر، فقد صوَّر فيها مصر تصويراً بارعاً لما آل إليه مجتمعها في نهاية القرن العشرين، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وفي العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة بين الطبقات، وبين الناس والحكومة .
وتناول العلاقة بين الدين والدنيا.وانتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية لمصر والمصريين في عهد الرئيس مبارك.وتتبع المتغيرات العريضة التي طرأت على الفكر الاقتصادي العربي وفي العالم الثالث في موضوع التنمية وعلاقته بالتخلف عبر القرون الخمسة الماضية، أي منذ نشأة الفكر مستقلا عن غيره من فروع الدراسات الاجتماعية وحتى الآن.وقام بتصوير ما حدث من تغيرات في حياة المصريين وطريقتهم في التفكير خلال النصف قرن الماضي وذلك بأسلوبه الرائع الجذاب، وبطريقته السهلة والعميقة في آن .
وأما عن القضايا القومية، وانطلاقاً من انتمائه للفكر القومي، فقد أولى اهتمامه لأهم العوائق التي تحول دون تحقيق أهداف الأمة العربية في التحرر من الاستعمار والصهيونية .
– وقد عالج أزمة ضعف العرب إزاء العدو الصهيوني، لافتاً الانظار إلى وجود فجوة كبيرة بين آمال الجماهير الشعبية وبين الأنظمة الرسمية العربية.فقد جاء في بعض نصوصه ما يلي : (( كنت ولا أزال أعتقد أن من أهم أسباب ضعفنا إزاء “اسرئيل” ، أن الشعب والحكومة هناك يتصرفان ككيان واحد، لهما نفس الأهداف والطموحات، و تحركهما نفس المشاعر، بينما الأمر عندنا على العكس من ذلك، فنادراً ما تتحد أهداف الحكومة وأهداف الناس، وهما فى معظم الأحيان كيانان متنافران، لكل منهما طموحاته وحساباته، بل كثيراً ما تكون أفراح الحكومة هى أشجان الناس، و العكس بالعكس )) .
– وأما عن دور الاستعمار ومناهضته للامبريالية ، فقد كان الراحل مهموما بقضايا العدالة الاجتماعية والتحرر من الهيمنة وتحقيق الاستقلال الاقتصادى، الذى لا يقل أهمية فى رأيه عن الاستقلال السياسى .
ومن هنا فقد ناهض الاستعمار الغربي والامبريالية في كافة اعماله و كشف عن ما اسماه بعولمة القهر التي يتعرَّض لها الوطن العربي، وقد تناول في كتابه ( عولمة القهر ) دور الولايات المتحدة الأميركية، مستشهداً بأحداث سبتمبر ٢٠٠١.حيث تناول في كتابه ما أسفرت عنه تلك الاحداث من زيادة حدة القهر وعلى الأخص للعرب والمسلمين، كما ووقف ضد الاحتلال اامريكي الغاشم للعراق معريا حقيقة مؤامرة استهداف الامة بقوله الشهير امام حشد غفير من الشباب العربي : (( لم يثبت أن من قام بتفجير برج التجارة العالمي في أمريكا عرب، ولكن تم اتهامنا – نحن العرب – للتمهيد لغزو العراق، ومن ثم للتشهير بالعرب والمسلمين )) .
كما كشف جلال أمين ما تعرضت له سائر الشعوب التي خضعت للاستعمار الغربي، من حملات ضارية من التشهير والتحقير، ولكن أضاف إلى ذلك، في الخمسين عاماً الماضية، حملات التشهير التي تُشَن علينا من جانب الصهيونية .
كان من أهم المفكرين الذين سخَّروا علمهم وأفكارهم لفهم الواقع وتحليله واستخلاص النتائج منه لقراءة المستقبل. وقد امن العلامة العربي الكبير الراحل ايماناً شديداً بأن لا تقدم ونهوض للامة العربية من دون معالجة الامراض الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع العربي.لذا فقد اولى اهتماماً ببعض القضايا الفكرية التي تعالج عدداً من تلك الأمراض الاجتماعية ، وفي هذا المقال القصير سنوجز بعض تلك القضايا، ومن أهمها :
– ايمانه بان الشك بالمسلمات له حدود تقع بين الامتناع عنه وبين الاستمرار فيه.وهو يرى ان التقدم يكون مستحيلاً من دونه.الا فانه من جهة اخرى، يعتبر أن الشك المستمر، وغير المنضبط بأهدافه العلمية، يجعل الحياة مستحيلة .
– كما ويتوقف عند آفة التعصب، فيقول : )) ان الخطأ ليس في التحيز المسبق بل في ان تسمح لتحيزك المسبق بأن يؤثر في حكمك، فلا ترى ما لا تحب أن تراه مع أنه موجود، أو أن ترى ما ليس بموجود لمجرد أنك تريده أن يكون موجوداً (( .
وأما علاج التعصب، كما يراه المفكر العربي الكبير جلال أمين، فهو (( ليس بإضعاف الولاء بل بإشاعة روح التعقل والحكمة في حمل هذا الولاء وفي التعبير عنه، بحيث لا يتحول الولاء إلى كراهية للغير. وتقوية الحس الأخلاقي تكون بترسيخ ولاء المرء لدينه وثقافته دون افتئات على حق أصحاب أي دين آخر أو ثقافة أخرى في التعبير عن ولائهم لدينهم أو ثقافاتهم )).ولذلك فقد حثَّ على التمييز بين الدين والتدين .
لقد كان جلال أمين شخصية فريدة بكل المعايير ، فهو اقتصادى من طراز نادر وكاتب مبدع ومثقف موسوعى، ولكن قبل كل هذا ، كان عربياً محبّاً لأمته وذائداً عنها، ومصرياً منتمياً انتماءاً صميمياً لوطنه ومدافعاً صلباً عن البسطاء والفقراء من أبنائه .
فتحية الى المفكر الكبير جلال امين الذي ترجم المبادئ العروبية التي امن بها الى واقع حي من خلال سيرة مفعمة بالعطاء والابداع ستبقى مخرجاتها منارة تنير الطريق لاجيال امتنا الصاعدة وهي تخوض ملاحم المواجهة في كل شبر من ارض الوطن العربي الكبير دفاعا عن حقها في الوجود والحياة .
مكتب الثقافة والإعلام القومي
٢٥ / ٩ / ٢٠١٩