في الذكرى السادسة والخمسين لفشل أول وحدة عربية وحول الأوضاع العربية الحالية أصدرت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي البيان التالي:
حلت الذكرى السادسة والخمسون لإفشال أول وحدة في التاريخ العربي المعاصر في 28 من ايلول – سبتمبر عام 1961،وأمتنا العربية تمر بظروف أشد وطأة على واقعها القومي من تلك التي كانت سائدة لعقود خلت ، هذه الظروف الشديدة الوطأة على الأمن القومي العربي لم تعد أسبابها نابعة من استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين وتتالي العدوانية الصهيونية على الأمة فقط ،ولا من اندفاع المواقع المقررة في النظام الاستعماري الجديد الذي ينعقد لواءه للقطبية الأميركية والذي بلغت ذروة اندفاعه في غزو العراق واحتلاله بعد حصار ظالم فرض بعد العدوان الثلاثيني، بل هذه الظروف اشتدت وطأتها من خلال اجتياح النظام الإيراني للعراق واندفاعه إلى العمق القومي من بوابة العراق فبات يشكَل تهديداً للأمة العربية سواء عبر الاحتلال المباشر كما فعل في العراق وسوريا واليمن أو عبر الأذرع الأمنية والميليشياوية التي ترتبط بمركز التوجيه والتحكم الذي يشرف عليه ما يسمى الحرس الثوري .
هذا التهديد للأمن القومي العربي تلاقت نتائجه من خلال تلاقي المشاريع المهددة للأمة بوحدتها وهويتها وتقدمها وأخطر ما في ذلك التمادي في تخريب البنى المجتمعية العربية عبر إثارة صراع مذهبي وطائفي وإثني، وابراز أدوار قوى طائفية ومذهبية تمارس الترهيب السياسي والتكفير الديني ويتم الاستثمار بها خدمة لأجندات وأهداف قوى الاحتلال، صهيونية كانت أو أميركية أو إيرانية. وكل ذلك بهدف خلق واقع تقسيمي وتفتيتي في بنيان الدولة الوطنية والبنيان القومي العربي برمته. وعلى هذا الأساس، فإن القيادة القومية إذ ترى بأن الانفصال الذي حصل لوحدة مصر وسوريا شكّل نكسة للنضال العربي الوحدوي فإن ما تتعرض له الأمة اليوم أخطر بكثير لأنه يتجاوز الانفصال بين قطرين إلى التقسيم لهذه المكونات القطرية وبالتالي جعل الوحدة أبعد منالاً وأصعب تحقيقاً. من هنا فإن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي ضوء تقديرها لمعطيات الواقع القومي الذي تمر به الأمة، ومع وضوح أدوار القوى الاستعمارية والصهيونية والفارسية الصفوية والشعوبية الجديدة ترى أن الرد على هذه القوى يكون بتحديد مصادر الخطر على الأمن القومي وتسمية قواه وتحديد منطلقات وصيغ أساليب مواجهتها.
إن القيادة القومية وهي تؤكد على إعادة الاعتبار للنضال الوحدوي خطاباً وسلوكاً فإنها تدرك بأن الأمن القومي العربي هو وحدة عضوية، وأن كلَّ تهديدٍ لأيٍ من مكوناته الوطنية إنما هو تهديد للأمن القومي برمته، سواءً تجسَّد هذا الخطر بما هدد ويهدد فلسطين والعراق والأحواز المحتلة، وكل أرض عربية محتلة، أو ما يقع تحت هيمنة المشاريع الدولية أو الإقليمية بسبب الانكشاف الوطني كما يجري في سوريا واليمن وليبيا.
وعلى هذا الأساس فإن الانتصار لقضايا الأمة في فلسطين والعراق والأحواز وسوريا واليمن وليبيا وغيرها يوجب على قواها الحية أن تخرج من دوامة انقسامها السياسي على المستويين الرسمي والشعبي، لأن هذا الانقسام بقدر ما يوفِّر بيئة لتنامي أدوار قوى التحالف الصهيو-استعماري المفتوح على علاقات عميقة مع المشروع الفارسي العنصري الطائفي، فإنه يُخرج مبادرات الحلول السياسية للكوارث والأزمات، التي تعصف بالعديد من الساحات، من الفضاء العربي إلى الفضاءين الإقليمي والدولي اللذين لم يقدما لأمتنا إلا التخريب والتدمير ، وما مجريات الاحداث في سوريا واليمن وليبيا، فضلاً عن تغييب المشروع الوطني لإنقاذ العراق ومخاطر الانقسام السياسي على حاضر ومستقبل القضية الفلسطينية ، الا امثلة على ذلك.
إن تعريب الحلول السياسية لما تواجهه الأمة من كوارث، وبما يستلزمه من بروز مرجعية عربية للحلول، يتطلب توفير الأرضية الداخلية الوطنية المناسبة، التي تتشكل من الطيف السياسي القادر على إطلاق مبادرات ومشاريع وطنية لمعالجة هذه الازمات الطاحنة. وان المدخل لذلك هو توفير قاعدة سياسية عريضة نصابها القوى والأحزاب الصادقة في ولائها وممارساتها الوطنية وحفاظها على الهوية القومية، ويفتح المجال أمام عملية سياسية تعيد هيكلة الحياة السياسية على قواعد الديموقراطية والتعددية وتداول السلطة لحماية المقومات الأساسية للدول المتمثلة في وحدة الأرض والشعب والمؤسسات.
لكن إذا كانت المصالحات السياسية تشكل مدخلاً لبلورة مشروع وطني للحل والإنقاذ، فإن هذا المشروع لا تحمله قوى طائفية ومذهبية تمارس الترهيب السياسي والتكفير الديني وترتبط بمراكز إدارة وتحكم خارجيين. بل تحمله القوى التي قاومت الاحتلال والمشاريع الطائفية، التي تشكل خطراً مضافاً على الأمن القومي برمّته كما على الأمن المجتمعي، وهو خطر بات واضحاً جداً بعدما ثبت، أن القوى الدولية والإقليمية تستثمر في دعمها لهذه القوى الطائفية خدمة لأجنداتها الخاصة، وكل ذلك على حساب الأمة وأمنها القومي والمجتمعي. لذا فإن إسقاط كل عوامل وتأثيرات الاحتلال والتدخل الخارجي، لا يستقيم إلا إذا أسقطت هذه الأدوات الطائفية التي عبثت بالأمن العربي، وهو ما يستلزم تفعيل المشروع القومي الشامل، الذي يشكل حزب البعث العربي الاشتراكي ركيزة أساسية من ركائزه، باعتباره كان وسيبقى في المواقع الأمامية للدفاع عن الأمة وأمنها، وليس إطلاق مشاريع اثنية أو طائفية تفتيتية مضادة.
من هنا فإن الحزب سيبقى منفتحاً على كل المبادرات السياسية التي تؤكد على الدور العربي في وضع الحلول، وعلى بذل الجهود الرامية إلى إعادة شد القوى السياسية إلى خياراتها الوطنية. وإن أي تجاوز لدور القوى الوطنية الأصيلة والمتجذرة في علاقاتها المجتمعية والحيلولة دون ممارستها لدورها الاساسي في بلورة الحلول السياسية الوطنية للأزمات سوف لن يفضي إلى نتائج إيجابية وخاصة تجاوز دور الحزب في العراق. إن اشتداد التآمر الصهيوني والاستعماري على العراق بعد ثورة السابع عشر من تموز نظراً لما حققته من انجازات عظيمة على صعيد التحولات الداخلية والبناء الوطني وعلى صعيد الدور الذي اضطلعت به الثورة في دعم قضايا النضال العربي وخاصة قضية فلسطين وهذا كان سبباً أساسياً في استهدافه المباشر من التحالف المذكور والنظام الايراني في ظل الحكم الملالي. وقد أصبح واضحاً أن مؤشرات الانهيار في البنيان القومي حصل بعد احتلال العراق.
وعليه فإن هزيمة المشروع المعادي يبدأ من العراق وهذا ما يفرض على كافة القوى الحريصة على وحدة العرب وهويتهم أن ينتصروا لقضية العراق بما هي قضية تحرير للأرض وتوحيد للشعب على أسس المواطنة. وأن المشروع السياسي الانقاذي الذي طرحه الحزب يشكل أساساً لإنتاج عملية سياسية جديدة تضع حداً للاحتلال بوجهيه الأميركي والايراني وما أفرزه من نتائج مدمرة وتعيد بناء العراق على أسس وطنية تضع جميع أبنائه من عرب وكرد وأقليات أخرى تحت مظلة الخيمة الوطنية وفي دولة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات.
إن القيادة القومية وفي سياق تأكيدها على اعتبار أن المشروع الوطني الذي طرحه الحزب يشكل الحل الوطني المطلوب تؤكد بأن ما جرى في العراق إنما كان بسبب الاحتلالين الأميركي والإيراني وأن الظلم السياسي والاجتماعي الذي تعرض له شعب العراق لا يقتصر على فئة ضد فئة أخرى، وأن الحل هو بانضمام جميع فئات الشعب وطبقاته إلى المشروع الوطني للإنقاذ وتوفير الأرضية الداخلية له كما الرافعة العربية.
وفي غمرة السجال السياسي والاعلامي حول ما جرى في شمالي العراق وما تلا الاستفتاء من إجراءات عقابية بحق جماهير شعبنا الكردي ،فإن القيادة القومية للحزب تدين هذا الحصار المفروض على إقليم كردستان ، وتدعو إلى التعامل مع المطالب المشروعة للكرد بروح التفهم والاستيعاب في إطار وحدة العراق الوطنية وهو ما كان قد أكد عليه حزب البعث في مؤتمراته وخاصة المؤتمر القطري السادس عام 1967،والذي بالاستناد إليه صدر بيان 11 آذار للحكم الذاتي عام 1970،والذي لم يرض الدول المتاخمة للعراق التي تمارس سياسة الاستلاب السياسي والاجتماعي للحقوق الثقافية والمدنية للكرد في بلدانهم.
إن القيادة القومية للحزب وهي تؤكد على أن الحل الوطني بعناوينه الرئيسية الذي طرحه الحزب كسبيل لخلاص العراق من محنته تؤكد أيضاً على أن الحلول السياسية للازمات البنيوية في سوريا واليمن وليبيا التي تحفظ وحدة الدولة والأرض والشعب والمؤسسات، وتفتح المجال أمام إعادة هيكلة الحياة السياسية على قواعد التعددية والديمقراطية وتداول السلطة وتخرج كافة القوى الأجنبية دولية أو إقليمية أو أذرع ميليشياوية من هذه الأقطار هي السبيل الوحيد الذي يضع حداً لهذا العدوان الدامي الذي اقتلع البشر ودمّر الحجر وأحرق الشجر.
إن القيادة القومية التي سبق ونوّهت بموقف حماس إعادة تموضعها في إطار مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية تنوه بالقرار الأخير الذي أعاد الاعتبار لمرجعية السلطة الوطنية وإعادة قطاع غزة إلى نطاق سلطتها وترى بأن هذا الموقف يشكّل خطوة متقدمة على طريق إنهاء الانقسام السياسي وتوحيد الموقف الفلسطيني على قاعدة البرنامج الوطني الذي يحمي الحقوق الوطنية من مخاطر التفريط بها
ختاماً إن القيادة القومية وهي ترى الانهيارات الخطيرة التي تتعرض لها الأمة وتستفحل يوماً بعد آخر، جراء استمرار الاحتلال الصهيوني لفلسطين وما ترتب على الاحتلال الأميركي الايراني المشترك للعراق من نتائج، وتغول مشروع ولاية الفقيه الارهابي الطائفي التوسعي الذي يستهدف الأمة كلها، تتوجه بندائها الصادق إلى كل القوى العربية المناضلة والحريصة على وحدة الأمة وحماية هويتها ومستقبل أجيالها لمغادرة تموضعها السياسي الفئوي والقطري، إلى رحاب العمل العربي المشترك الواسع، مؤكدة أن يد الحزب ستبقى ممدودة لكل القوى التي تلتقي معها على قاعدة تحديد مصادر الخطر الموجه للأمن القومي العربي، وحماية هوية الأمة حاضراً ومستقبلاً.
وإن منظمات الحزب ومؤسساته الجماهيرية التي تشترك في العمل النضالي في كل الساحات العربية، سواءً تحت عناوين مقاومة الاحتلال والاستلاب ،أو تحت عناوين التغيير الوطني الديموقراطي، قد أثبتت وجودها وفعاليتها حيثما توفرت الظروف الممكنة. وتعرب القيادة القومية عن تقديرها العالي واعتزازها العميق بهذه المنظمات وتحيي ومناضليها داخل اقطار الوطن العربي وخارجه، وتدعوهم إلى تصعيد تلك الروح النضالية التي حمل الحزب لواءها وما زال وسيبقى إلى أن تتحقق أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية.
تحية لكل الرفاق الذين ساهموا في انبثاق أول وحدة في التاريخ العربي المعاصر، وعلى رأسهم القائد المؤسس المرحوم أحمد ميشيل عفلق.
تحية لشهداء الحزب والأمة العربية وفي طليعتهم القائد الشهيد صدام حسين
تحية لروح فقيدنا الكبير نائب الأمين العام للحزب الدكتور عبد المجيد الرافعي
تحية للأمين العام للحزب القائد الأعلى لجبهة الجهاد والتحرير الرفيق عزة إبراهيم
عاشت الأمة العربية، وعاش نضالها الوحدوي التحرري.
القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي
أوائل تشرين الأول ٢٠١٧