المُصْطَلَح المَلْغوم مَرَّة أخْرَى
د. نضال عبدالمجيد
يعود العبث في المصطلحات اللغوية مرة اخرى وبأكثر حدة، فبعد محاولة الغرب ترسيخ مصطلح “الشرق الاوسط ” منذ بداية استعماله قبل اكثر من ١٢٠ عاما، في محاولة لتمييع الهوية القومية العربية، وانشاء هوية هجينة عائمة لا تعرف حدوداً، فالمصطلح هنا يبدو للوهلة الاولى جغرافياً، لكنه في حقيقته المرّة يحاول ان يدمج الكيان الصهيوني، في الوطن العربي. ولهذا بدأوا في اطلاق تسمية ازمة الشرق الاوسط، على النزاع العربي الصهيوني في محاولة للتمويه عن اغتصاب فلسطين، وتغيير مؤشر الصراع في كونها القضية المركزية للامة العربية، ومحاولة اعطاء المشروعية للكيان الصهيوني. واستمروا في ذلك وصولاً لمشروع شيمون بيريز المسمى “الشرق الاوسط الجديد” . والذي خلاصته دمج المال العربي مع العقل اليهودي، من خلال التطبيع بين الانظمة العربية والكيان الصهيوني .
واليوم يروَّج لمصطلح جديد يحاول الغرب والقوى الاستعمارية، وبكل ما تفتق من خبثها ودهائها، وذلك باستخدامها لمصطلح “المكونات” في اللغة السياسية والاعلامية، بديلا عن الشرائح الاجتماعية التي تلون النسيج الاجتماعي والتي غالباً ما توجد بشكل طبيعي في اغلب بلدان العالم. فبعد أن استطاعوا ان يضعوا هذا المصطلح في ديباجة دستور العراق الذي كتبه المحتل الامريكي وصدق عليه المحتل الايراني من خلال ادواته في السلطة السياسية العميلة، ليكون هذا الدستور مشروع اولي للتقسيم لأنه لا يؤمن بدولة المواطنة الموحِّدة بل بدولة المكونات .
يعود اليوم المصطلح ليصف الشرائح الاجتماعية المتأخية في اقطار الوطن العربي بالمكونات، وكأنها حالة فريدة يختص بها الوطن العربي ، في تزوير فاضح للجغرافية البشرية في العالم اجمع حيث تكاد توجد شرائح متآخية تشكل النسيج المجتمعي والوحدة الوطنية لأغلب شعوب العالم. اما في وطننا العربي فان استهداف الوحدة الوطنية يتم بوصفها تارة مكونات اثنية وتارة مكونات دينية، واخرى طائفية، في محاولة لتكريس واقع جديد يهدف الى تمزيق اقطار الوطن العربي مرة اخرى. فالعبث بالنسيج الاجتماعي ليس جديداً على اقطار الوطن العربي، فقد سبق للمحتل الفرنسي انا اقام في القطر السوري مثلاً اربع دويلات في عشرينيات القرن العشرين، لكن الارادة الوطنية افشلت مشروعه التفتيتي هذا.
وقد تكثف هذا الاستهداف للوحدة المجتمعية لأقطار الوطن العربي بعد احتلال العراق ثم جرت محاولة استخدامه لتمزيق الوحدة الوطنية في مصر وليبيا والسودان واليمن ولبنان . واليوم تعود نغمة المكونات بعد ان سقط النظام السوري الذي امعن في تفتيت المجتمع في القطر السوري ولعب على حبال النسيج الاجتماعي، حيث توهم انه بهذا العبث سيبقى متسلطاً على رقاب الشعب السوري، لكنه فشل ومضى الى مزبلة التاريخ .
إن قيام دولة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات بلا اقصاء او ابعاد، وليست دولة المكونات هي السبيل الوحيد لترصين الوحدة الوطنية في أقطار الوطن العربي ، حيث تستعر الاطماع الصهيونية والاقليمية في جعل الاحتراب الداخلي بين شرائح المجتمع متخذة من الشعار الاستعماري القديم ( فرق تسد) وسيلة لذلك .
لقد تنبه حزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي ومنذ وقت مبكر لموضوع الاقليات في الوطن العربي، فقد اقر المؤتمر القومي الحادي عشر – تشرين اول ١٩٧٧- الحقوق القومية والثقافية لكافة الأقليات في الوطن العربي. وحث النظام السياسي العربي على اقرار هذه الحقوق لسحب البساط من القوى المعادية لوحدة الامة من اللعب على هذا الوتر الحساس، الذي يؤدي الى تشظي اقطار الوطن العربي الى دويلات متنازعة، يسودها الاحتراب الداخلي فيكون للكيان الصهيوني السطوة عليها جميعا .
إن بناء مؤسسات الدولة وفقاً لقيم المواطنة المتساوية، والتي تكفل العيش الكريم والأمن الاجتماعي، هي السبيل الوحيد، لإسقاط الحجج الجوفاء، والتي طالما تشدقت بها قوى الاستعمار القديم والجديد، تحت ستار حماية الاقليات. فلا اكثرية او اقلية في دولة القانون. بل مواطنون متساوون تحت مظلة الدستور الذي هو العقد الاجتماعي بين جميع المواطنين .
إن ترسيخ مصطلح “المكونات” الذي يتماشى مع الأهداف المخططة والمبيتة للقوى المعادية للأمة العربية، يشكل خطورة جسيمة تكمن في تصنيف مواطني القطر الى اصناف قومية ودينية ومذهبية، باعتبارهم مجرد “مكونات”، وليس باعتبارهم مواطنين اصليين في المجتمع عليهم ذات الواجبات، ولهم ذات الحقوق. وبهذا يتحقق للمتصيدين في الماء العكر اهدافهم الشريرة في تفتيت المجزأ من اقطار الامة المبتلاة بمشاريع الهيمنة والاستحواذ .
ونحن على ثقة بان يقظة الضمير الجمعي والارادة الوطنية الحرة في اقطار الوطن العربي ستحبط هذه النوايا الشريرة. وستبنى دولة المواطنة التي يسودها العدل والأنصاف .