الكَلام فِي الوَحْدَةِ العَرَبيَّة دُونَ اسْتِحْضارِ
ثَوْرَة 17 تَمُّوز مُجافاَة لِحَقائِقِ واقِعِنا القَوْميِّ
يوغرطة السميري – تونس
كانت الوحدة ومازالت تمثل هدفاً استراتيجياً في نضال القوميين، فبدون تحقيقها كمشروع سواء جهوياً أو إقليمياً أو قومياً سيستمر العرب في تخلفهم الاقتصادي والاجتماعي، غير آمنين على وجودهم القومي والحضاري في ظل التحديات المعاصرة التي حكمتها الثنائية القطبية سابقا، والتي تمثلها القوي والكتل السياسية والاقتصادية حالياً الساعية إلى السيطرة وإعادة بناء النظام الدولي بما يحقق مصالحها على حساب الأمم الأخرى وخاصة الأمة العربية وبأي ثمن ووسيلة مهما بلغت شدة اجرامها وبشاعتها.
أما اليوم فقد أصبحت الوحدة ضرورة حتمية وجودية في ظل التسارع الخطير للتطورات الراهنة التي تهدد وجود الامة في الصميم، حيث ترتبط قدرة الامة على مواجهة ما تتعرض له من مخاطر، وقدرتها على تحقيق نهضتها وتطورها، بتحقيق وحدتها القومية.
فالوحدة هي التي تمكن العرب من مواجهة الهجمات البربرية التي تتعرض لها الامة من الشرق والغرب والتي تنفذها الادوات الاقليمية ومشاريعها الاستعمارية وتغولها الغير مسبوق في الوطن العربي.
كما تمكنها من تجاوز الفقر ومقاومة العجز النفسي والمادي، وتربط ابناء الامة روحياً بماضيهم كما تمدهم بعناصر القوة والقدرة على مواجهة الطامعين بأرضهم وثرواتهم.
وفي الوقت الذي يرى فيه البعض ان الفكر الوحدوي مثالي وغير واقعي، الا ان معركة الوجود التي تخوضها الامة بضراوة في أكثر من قطر عربي يومياً، تثبت ان الوحدة ضرورة استراتيجية وتحتل بذلك أولوية سياسية تتقدم باقي الأهداف القومية الأخرى سواء على مستوي الحكومات أو الشعب العربي. إذ بدون انجازها سنبقي غير آمنين على وجودنا القومي والحضاري والإنساني، فاقدين لاستقلالنا وحريتنا وكرامتنا أمام حجم التحديات ألآنية والمستقبلية التي تفرضها القوي الامبريالية عالمياً واقليمياً.
لذلك في العودة لتنمية الشعور القومي حالة متأكدة الآن باعتبار ما لحق هذا الشعور من تراجع في ظل التخريب الداخلي الذي تلعب فيه عوامل خارجية دوراً أساسياً منذ احتلال العراق مستندة الى خليط من الأدوات المحلية غير المسؤولة مشكلة عامل هام من عوامل الإحباط والعرقلة بصيغتين:
- أولا: الهروب إلى النظرة الأممية بشكليها الفكري سواء المبني على العقيدة الدينية التي تنطلق من مفهوم إيمان روحي جامع لتجعل منه ما هو سياسي واقعي مادي.
- ثانيا: الهروب إلى النظرة التي تتجاوز ما هو أولي إنساني إلى ما هو إنساني أممي من ناحية ومن ناحية أخري النظرة القطرية المرتبطة بالخصوصية المحلية ملغية الخصوصية الجامعة.
اتجاهات تفكير يسفهها الشعور القومي الايجابي والجدّي والمسؤول حتى في حدوده الدنيا بما ينشئه من صحوة قومية بإمكانها أن تهز أعماق الأمة. والشواهد عديدة على ذلك (لعل الحراك الشعبي العربي ومنذ انطلاقته الأولي من تونس وتفاعلاته تعبيرا حيا على ذلك). حراك بكل ما اقترن به من سلبيات يؤشر الى أن المجتمع العربي ينزع الى الخروج من إطار قرون الهيمنة الخارجية التي سلبت أرضه وثروته وإرادته وحاولت طمس شخصيته وبما يؤكد سعيه للانتقال من التخلف بكل ما يعنيه من معايير كمية ونوعية اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً إلى الحضارة والالتقاء بعصر التكنلوجيا، ويكشف من أن العرب بعد فشل الأنظمة القطرية دخلوا كشعب وجماهير فعلاً مرحلة تلمس الطرق الناجعة للتصدي للانقسام، ومعالجة التجزئة كشروط لا بد منها لصد الهجمات الوجودية المتتالية ولاسترجاع وضعهم الطبيعي و شخصيتهم الحضارية ضمن حركة التاريخ العام للإنسانية المتجهة نحو التحرر و الحرية، نحو الثورة التقنية الحديثة، نحو مجتمع الأبعاد الكبيرة، و التجمعات البشرية الهامة التي توفر أفضل الشروط لازدهار حياة الشعوب.
ذلك كله بغض النظر عما نشاهده من تداخل ملامحه صيغة ارتداد إلى الخلف.. ارتداد مفعل واستباقي… بحكم تقابل في الرؤي وأهمية الاستقطاب الخارجي الذي هو ناتج تراكم غرائزي يحكمه رد الفعل ولكنه غير منعزل عما هو روحي قائم وثابت.
لذلك فالوحدة العربية في منظورنا ليست قوة مادية فحسب بقدر ما هي قوة روحية مرهونة بانبعاث روحي لدي أجيال الأمة كما يؤكدها الأستاذ احمد ميشيل عفلق:
” تتحقق الوحدة العربية عندما يشعر العرب أنهم لم يوجدوا عبثاً في هذه الحياة ولم يوجدوا ليعيشوا على فضلات الآخرين وليكونوا عبيدا للآخرين ولم يوجدوا جماعات متناحرة تتنافس على المادة والنفع الحقير وإنما وجدوا ليعطوا ما في نفوسهم وعقولهم وليعبِّروا أكمل تعبير على إنسانيتهم ويرتفعوا إلى فوق النظرة التي تؤمن بالقيم والخلود وليرتفعوا إلى مستوي روحي يصهر نفوسهم من جديد وينسيهم خلافاتهم ويبدل ضعفهم إلى قوة وليشعروا بأن عليهم مسؤولية جدية تامة “.
مما يعني أن الوحدة هي إدراك للذات والواقع وللرسالة الإنسانية الخالدة وبالتالي فالوحدة السياسية هي نتيجة عملية وعلمية للوحدة القومية عندما يشعر العرب بأنهم أمة واحدة ولهم رسالة وأن عليهم مسؤولية تحرير أنفسهم ليرتفعوا إلى مستوي رسالتهم الإنسانية. وعليه فالوحدة العربية مهما كان شكلها بين قطرين وأكثر جهوية أو إقليمية مكسب تاريخي لأبناء الأمة يفرض تعزيزها وحمايتها والدفاع عنها ضد القوي السياسية المعادية سواء داخليا أو خارجياً.
هنا نستحضر ثورة 17 ــ 30 تموز في العراق في ذكراها السادسة والخمسين بما وضعته من أهداف على طريق بناء الوحدة في صيغه المادية ان كانت الاقتصادية أو السياسية من الحضور العسكري الفاعل في معارك الأمة ضد الاحتلال الصهيوني ان كان على الجبهة المصرية او السورية وبخاصة انقاذ دمشق من الاحتلال الصهيوني. أم بحضورها وثقلها الاقتصادي وغير ذلك مما لا مجال لتعداده هنا. أما على مستوي البناء فلا يمكن أن نمر بقطر عربي دون أن نجد به بصمة فعل مادي شاخص لهذه الثورة ــ التجربة.
ويبقي لرأي الدكتور سعدون حمادي رحمه الله الأثر الذي على كل القوميين العودة اليه والعمل على صياغته بمفهوم المفردات القابلة للتطبيق إذ يقول رحمه الله:
” إن تجربة العمل من أجل الوحدة والتعرف الموضوعي على معطيات الواقع العربي تستدعي عناية خاصة بنظرية الأسلوب لتحقيق الوحدة العربية؛ هل تكفي فكرة واحدة أو معادلة بسيطة لتحقيق الوحدة العربية أم أن نظرية الأسلوب يجب أن تكون معقدة تستوعب أفكارا عديدة وأساليبا عديدة لمواجهة تعقيدات الواقع وتناقضاته؟ ذلك من الأمور التي تتطلب جهدا فكريا جديدا فالواقع العربي يصعب التنبؤ به فهو قد يتمخض بأية لحظة عن فرص وحدوية تحتاج أن تواجه بنظرية متطورة تساعد على إيجاد الحلول السليمة؛ الواقع المجزئ العربي ليس بسيطا لذلك لا يمكن مواجهته بمعادلة بسيطة بل بنظرية متطورة وتحقيق الوحدة العربية هو أكبر مهمات الثورة العربية“.
تري متي نأخذ بهذا الرأي ونقلع عن اللغو الإعلامي لفائدة عمل مادي يؤسس لمعادلة فكرية تصيغ استراتيجية فعل مؤشر على طريق بناء وحدتنا كعرب وتقطع مع أشكال اللغو الإعلامي الذي نعيشه كعرب عامة وبخاصة ممن يطرحون أنفسهم كقوى فكرية.