السلمية والكفاح المسلح: وسيلتان للنضال ولكل سياقها وميدانها
الحلقة الثانية
عادل خلف الله
الكفاح المسلح: مواجهة التحدي الخارجي (العدوان والغزو والاحتلال)
بعد تناول السلمية (النضال السلمي الديمقراطي) في الحلقة الاولى، كإحدى وسيلتي العمل والنضال التي يتبناهما حزب البعث العربي الاشتراكي في نضاله الوطني والقومي، في مواجهة التحدي الداخلي لمهام مرحلة ما بعد الاستقلال السياسي، بجذورها الفكرية وممارستها السياسية والنضالية، وفق معطياتها في (الحالة السودانية)، تتناول هذه الحلقة، في مستهلها الوسيلة الأخرى، النضال والكفاح المسلح لمواجهة التحدي الخارجي، عدوان، غزو، واحتلال.
لقد جاء تطوع مؤسس البعث ، الراحل الأستاذ أحمد ميشيل عفلق، كخطوة عملية لنداء (نصرة فلسطين) الذي أطلقه ، مع متطوعين سوريين وعرب ،في فلسطين، إيذانا، أو تدشينا ، لدخول النضال القومي التحرري ، مرحلة جديدة ، من أبرز سماتها ، اقتران القول بالعمل (وحدة الفكر والممارسة)، و(اعتبار الفكر قوة تاريخية لا تقدر بثمن )، ولا مناص من أن تتسلح بها القوى الثورية ، والتحام القوى الثورية بالجماهير ، والارتقاء بالسياسة إلى مستوى الرسالة ، والتي تكون فيها الجماهير ، المنظمة ، المسلحة ، وسيلة النضال الثوري وغاية في ذات الوقت. وتأكيدا، فيما يلي فلسطين، على مقولته الخالدة والحاسمة (فلسطين لا تحررها الحكومات وإنما الكفاح الشعبي المسلح)، بوحدة النضال، وممارسة نضال الوحدة، عبر جدلية (فلسطين طريق الوحدة والوحدة طريق فلسطين).
ومع تجذر واتساع قاعدة البعث الجماهيرية، وتنامي استعدادات الجماهير والقوى التحررية، فلسطينيا وعربيا وعالميا، تجلى موقف البعث ودعمه الثابت، اللامحدود، وغير المشروط، للقضية الفلسطينية، كميدان لمفهوم الكفاح المسلح، وتمظهرها كقضية مركزية في نضاله، ولقوى النضال الوطني القومي التحرري. لا سيما بعد انطلاقة الثورة الفلسطينية مطلع الستينيات من القرن الماضي، ووصول البعث في العراق للسلطة بثورة 17/30يوليو / تموز 1968 والتي جاءت، في جانب منها، ردا على تداعيات هزيمة يونيو/ حزيران 1967، بعد عام تقريبا، على الصعيد القومي، وكأحد مقررات مؤتمره القومي الثامن. ثم تأسيس وإعلان جبهة التحرير العربية.
وإن كان المقال يكتفي بالتطرق للقضية الفلسطينية كميدان من ميادين الكفاح المسلح، ودون الخوض في التفاصيل، فهو يكتفي كذلك بالإشارة، إلى أن فلسطين ظلت في نضال البعث، وفي كل الميادين والساحات (القضية المركزية)، ولذلك:
- قاوم مشاريع تصفية القضية الفلسطينية والتسوية والحلول الاستسلامية، والتطبيع مع العدو الصهيوني، بمختلف عناوينها وأطرافها وحتى الآن.
- تمسك البعث وحرص على الوحدة الوطنية الفلسطينية، وعلى أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني على طريق تحرير فلسطين، على كامل التراب الفلسطيني وعاصمتها القدس الشريف.
- الدعم اللا محدود، غير المشروط لمنظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها وللفصائل الفلسطينية، والذي أوجزه الراحل ياسر عرفات في خطاب له في قمة عمان (العراق هو البلد الوحيد الذي ظل ملتزما بالوفاء بالالتزامات التي أقرتها قمة جدة، وبأكثر، رغم الحصار المفروض عليه).
ويتجسد مفهوم الكفاح المسلح أيضاً في موقف البعث ودعمه وإسناده، وتطوع قياداته وكوادره، في صفوف نماذج أخرى لتجارب الكفاح المسلح في مواجهة الاحتلال، سواء في انطلاقة الثورة الارترية المسلحة في مواجهة الاحتلال الإثيوبي، حتى تحقق استقلالها، وفي المقاومة الأحوازية في مواجهة الاحتلال الفارسي، والمقاومة اللبنانية في مواجهة الاحتلال الصهيونى لجنوب لبنان، وفي كافة الأراضي العربية المحتلة. ويمتد ذلك إلى اعتراف البعث ودعمه وإسناده لحركات الكفاح المسلح التحررية وقياداتها، من أجل التحرر من الاستعمار وتقرير مصيرها الوطني، في إفريقيا، وتأكيده على وحدة النضال العربي الإفريقي التحرري، وكذلك في أمريكا اللاتينية.
الكفاح المسلح لم يعطل التحول الديمقراطي والحلول السلمية:
أخيراً يشير المقال إلى نموذجين لمفهوم الكفاح المسلح جسدتهما تجربة الحكم الوطني في العراق:
الأولى تجربة الجيش الشعبي، التي هيأت وأهلت ملايين العراقيين والعراقيات على حمل السلاح بمختلف صنوفه والمشاركة الذاتية في حماية السلم الاهلي والمجتمعي والمنشآت العامة، وفي مشاريع البناء والتشييد وإعادة الإعمار، وتجربة قواطع الجيش الشعبي اضافة الى المتطوعين العرب في مواجهة العدوان والتوسع الفارسي في الحرب الايرانية على العراق لثماني سنوات 1980-1988. كل ذلك مثال على تجارب حية، لمفهوم الكفاح الشعبي المسلح بآفاقه القومية التحررية وتعبير عن الأبعاد القومية للمعارك والحروب الدفاعية المشروعة التي خاضها العراق في ظل حصار اقتصادي، يعد الأطول والأسوأ من نوعه في التاريخ الحديث.
الثانية: تجربة المقاومة العراقية المسلحة في مواجهة الغزو والاحتلال الذي قادته أمريكا. لقد كانت انطلاقة المقاومة العراقية الباسلة، بالتزامن مع الاحتلال مباشرة، سابقة تاريخية وبعدة مٱثر، أكدت التخطيط الاستراتيجي الدقيق الذي أعدته قيادة العراق وقائده الشهيد صدام حسين، كما أكدت، ثانيا، حيوية فكر البعث من جهة، وقدرات كوادره وقواعده النضالية والتنظيمية من جهة اخرى، بالانتقال السلس، غير المسبوق، من الحرب النظامية، إلى المقاومة المسلحة، في مواجهة الصفحة الثانية للغزو والاحتلال المزدوج الايراني الامريكي وإفرازاته.
كما عبرت ثالثاً عن قدرتها على الصمود، في مواجهة آخر منجزات أمريكا و الغرب التسليحية و التدميرية والاستخباراتية، و مطاولتها في تحمل ويلات ترسانتها التسليحية المجهزة لمحاربة الاتحاد السوفيتي سابقا، إضافة إلى اتساع نطاقها من زاخو أقصى الشمال العراقي إلى البصرة حاضرة الجنوب، وبتنوع فعالياتها وأساليبها القتالية، التي أجبرت أمريكا على الانسحاب من العراق، بما تكبدته من خسائر بشرية، عجزت عن إخفائها، إضافة إلى خسائرها الأخلاقية و المادية والاقتصادية ، وإسناد مهمة تنفيذ بقية أهداف الغزو والاحتلال، بالوكالة إلى إيران والعدو الصهيونى كرأس رمح تسنده قوى اقليمية وقوى التبعية والتفتيت العربية.
أما رابعَ مٱثر المقاومة العراقية المسلحة، فتكمن في قدرتها على المحافظة على هويتها الوطنية القومية التحررية المستقلة، وإفشالها لكافة محاولات، حرفها أو تشويهها، بالواجهات المشبوهة والأنشطة العملياتية التي رعتها وإدارتها استخبارات أمريكا والوكلاء والشركاء المرتبطين بها، في جريمة العصر. واعتمادها في كل ذلك على نفسها وما وفره لها محيطها الاجتماعي في العراق من حضن ساند وتمويل رغم الإفراط في العنف، حتى دكّ المدن والبوادي على رؤوس من فيها، والملاحقة والتعذيب والقتل والتصفية على الهوية، اضافة الى حملات التهجير القسري والتغيير السكاني.
خلاصات من المبدئية في العلاقة بين الهدف والوسيلة:
تبرز سمة العلاقة العضوية بين وحدة الهدف والوسيلة كإحدى سمات فكر البعث، في تأكيد أن الغايات النبيلة تحققها الوسائل النبيلة في ثلاثة خلاصات هي:
- إن تجارب الكفاح المسلح المعاصرة في مواجهة العدوان الخارجي والاحتلال، التي تمت الإشارة إليها كنماذج، ما هي إلا امتداد عصري، حي ومشرق، لتجارب ثورات وانتفاضات النضال التحرري المسلح في مواجهة الاحتلال والاستعمار بوجهه القديم، التي شهدها الوطن العربي، في مشرقه ومغربه. حتى تمكنت العديد من أقطاره إنجاز استقلالها السياسي.
- أكدت التجربة النضالية للبعث وممارسته العملية لكلا من وسيلتي النضال، مبدئيته العالية، وجداراته في تحديد خياراته بدقة في مواجهة أي من التحديين، الداخلي والخارجي، دون خلط أو الغرق في المراحل، فلكل وسيلة هدف، بأصالة وبعيدا عن الانسياق وراء ردود الفعل أو ركوب الموجات العابرة سواء بالاستسلام لإغراء القوالب الجاهزة وكسل التقليد الأعمى وهو ما وقعت في فخاخه العديد من القوى السياسية والتيارات الفكرية. ونضرب لذلك مثلين:
أ- في السودان، كما العراق، لم يغرق البعث ولا ثورة يوليو/ تموز في مرحلة (الحل العسكري) كطريق لحل قضايا التطور الوطني. فقد تبناه نظام 17 نوفمبر 1958 في السودان مع حركة انانيا (1)، كحل زائف لقضية جنوب السودان. كما تبناه النظام العارفي مع القوى السياسة والمسلحة الكردية كحلن للقضية الكردية في شمال العراق.
في السودان رفض البعث الحل العسكري واقحام الدين بالسياسة، ودعا للحل السلمي والإقرار بالتمايز الثقافي والحضاري بين الشمال والجنوب.
وفي العراق، قدم سابقة، وهي الحل السلمي الديمقراطي للقضية الكردية وفق بيان 8 مارس / آذار 1971، بإقرار الحكم الذاتي الإقليمي لكردستان العراق، في إطار وحدة العراق ودولته القوية.
وتجدر الإشارة هنا إلى ما أورده مولانا أبيل لير، نائب الرئيس نميري، في كتابه جنوب السودان وإهدار المواثيق، حول الحكم الذاتي الإقليمي لجنوب السودان الذي تضمنته اتفاقية أديس أبابا للسلام في السودان، بين نظام مايو وحركة انانيا. فقد اورد في كتابه، أن تجربة الحكم الذاتي للجنوب استقاه نظام نميرى من تجربة ومعايشة للحل السلمي الذي اتبعه العراق للقضية الكردية.
ب- في السودان لم ينساق البعث إلى المعارضة من الخارج وتبني العمل المسلح في مقاومة النظام الدكتاتوري، وحلوله العسكرية لقضايا التطور الوطني، إبان دكتاتورية مايو1969-1985ودكتاتورية الإنقاذ 1989-2019، على الرغم من تبني ذلك من قبل القوى السياسية والتيارات الفكرية لغالب القوى. وظل متمسكا باستراتيجية النضال السلمي الديمقراطي مع القوى الحية في المجتمع حتى سقطت الدكتاتوريتين عبر الانتفاضة الشعبية.
- إن تعدد وتطاول وتواصل أمد معارك التصدي للعدوان الخارجي المشروعة ، التي أجبر العراق على خوضها، كما سبق الإشارة إليها، لا سيما الحرب مع إيران، والظروف الاستثنائية التي فرضتها، لم تدفع باتجاه الغاء الحياة ، الاجتماعية والاقتصادية في العراق، ولا على حساب مدنية الدولة والمجتمع، و لا ايقاف مسيرة التحول الديمقراطي، التي وضعت برامج التنمية الشاملة في السبعينات من القرن الماضي، مثل قانون الإصلاح الزراعي، وتأميم النفط ، والحملة الوطنية لمحو الأمية، أساسها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والذي نهض عليها الحل السلمي للقضية الكردية عام 1971 م ،والانتقال من صيغة الحزب القائد، في إطار الجبهة الوطنية والقومية التقدمية في بداية السبعينات ، إلى الإقرار بالتعددية السياسية والفكرية وفق الدستور، الذي بدأت خطواته قبل العدوان الفارسي1980، والذي لم يعطل السير فيه من خلال وضع القوانين والتشريعات، التي أجريت على ضوئها انتخابات المجلس الوطني للعراق ، والمجلس التشريعي لشمال العراق ، في كردستان ، والتي أكد البعث من خلالها ، إيمانه بالتعددية ، و ضمان التنافس الانتخابي الحقيقي، بتحديد البعث لعدم تجاوز مرشحيه في الدوائر نسبة 50%، ودون الخوض في المزيد من التفاصيل فإن الخلاصة التي يدركها التقييم المنصف والموضوعي، إن التحديات الخارجية لم تعطل مسيرة التحول الديمقراطي، وإنما كشفت جدية التمسك القيادي والمبدئي بها ، دون القفز فوق الواقع العراقي وتعقيداته ومعطيات تجربة تطوره السياسي. لقد قال الرئيس الشهيد صدام حسين “أن تجربة العراق قد تخطت الخطوط غير المسموح بتخطيها”.
أعتقد أن ما أنجزه العراق في هذا المضمار، رغم الظروف والمعطيات غير المؤاتية، والتضحيات الجسيمة، يستحق المزيد من التناول والتحليل وتسليط أضواء كاشفة، لإبراز عظمة وفرادة الجهد والتصميم، رغم الصعاب وضراوة التضليل وحجم الأكاذيب التي استهدفت النيل من التحولات الديمقراطية والاجتماعية، ومن التجربة الرائدة، التي شقت طريقها الخاص غير المطروق.
– نواصل –