الفِكْر القومِي العَربي.. وبَعض تحديّات العّصر
د. قتيبة محمود
بدأت تباشير النهضة والفكر القومي العربي منذ القرن التاسع عشر وتصاعد المشروع القومي العربي بعد النصف الثاني من القرن العشرين، حيث حقق ذلك المشروع إنجازات كبرى كما واجه في نفس الوقت تحديات جسيمة وصولاً إلى اجهاض النموذج القومي في العراق، أثر الاحتلال الامريكي الإيراني سنة 2003. وصاحب ذلك صعود نماذج للحركات الدينية المغطاة بغطاء الدين والتي يطلق عليها البعض تسمية الإسلام السياسي، وفي خضم شدة وقساوة التحديات والهجوم الذي تواجهه الأمة العربية والذي أحدث ويحدث يومياً كوارث فاقت ببشاعتها كل ما سبقها في التاريخ، ظهرت هنا وهناك دعوات ومراجعات مختلفة منها مراجعة الفكر القومي والمشروع القومي، أو مناقشة الموقف من التراث، أو التشكيك في ماهية الحضارة العربية الإسلامية والتخلي عنها، أو الدعوة إلى الديمقراطية الليبرالية، وغيرها.
وغالباً ما تترافق هذه الدعوات مع الخلط بين النظرية والتطبيق، أو بين الفكر القومي والمشروع القومي، أو بين التراث والحضارة، أو خلط واضح بين الديمقراطية وبين الليبرالية واعتبار أنهما لصيقان حتميان!! واعتبارها البديل العملي لأزمة الدولة القطرية، وبالتأكيد يُقصَد من ذلك تبني الليبرالية الغربية، في مفارقة غريبة حيث إن هذه الليبرالية تشهد الآن أعتى أزماتها البنيوية والتطبيقية والقيمية في العالم بما فيه موطنها الأصلي وهو الغرب.
ومن بين تلك التحليلات تحميل الحركة القومية العربية وفي مقدمتها، البعث والتجربة الناصرية بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، أوزار ما آلت إليه أوضاع الأمة العربية. ولسنا هنا في مقام الدفاع عن النموذج القومي الذي بناه البعث في العراق أو الذي بنته ثورة يوليو في مصر، وتشابه التكالب الاستعماري والصهيوني على هذين النموذجين، وأحداث التاريخ شاهدة على ذلك، فقد بنى النموذجان في القطرين وإن تفاوتت مستويات البناء ودرجاته، قاعدة صناعية وعلمية وحققا مستويات من التنمية والعدالة الاجتماعية غير المسبوقة في الوطن العربي. وتعداد منجزات كلا التجربتين، أمر عسير على الجمع، فقد أحدثت تغييراً جذرياً شمل كل نواحي الحياة، وهو ما برر استهدافهما.
بعض التحديات التي واجهها المشروع القومي
بالرغم من الأخطاء التي تصاحب أي مشروع تاريخي، إلا أن كلا القطرين، مصر والعراق تعرضا لتآمر واستهداف لا مثيل له، من القوى الغربية وممثليها في المنطقة، فأجهضت الناصرية، بموت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 28 أيلول 1970، بعد أن تعرضت لأقسى ضربتين، الأولى بانفصال وحدة مصر وسوريا عام 1961، والثانية في نكسة حزيران 1967.
أما ما تعرض له النموذج القومي في العراق والذي أجبر الامبريالية الأمريكية أن تأتي بجيوشها الجرارة مرتين وفي الثانية تم الغزو والاحتلال، فتمكنت من تدمير الدولة واستهداف منجزات الشعب العراقي.
ويحق للمرء أن يتساءل، يا ترى هل كان الغرب الاستعماري وأدواته ليحشد كل امكانياته، واحتياطاته لتدمير المشروع القومي، لو لم يكن هذا المشروع، قد حقق إنجازاً جدياً على أرض الواقع وقطع أشواطاً على طريق نهضة الأمة، وشكل خطراً وجودياً، على الكيان الصهيوني؟ (1)
ورغم السلبيات التي ظهرت في بعض جوانب التطبيق والتي لا يكاد يخلو منها أي مشروع كبير في العالم، والتي جعلت هذا النموذج يظهر أمام البعض على غير حقيقته المستندة إلى فكر قومي يؤمن بالحرية والتعددية، إلا أن هذه السلبيات لا ينبغي أن يُنظر لها بمعزل عن التحديات التي تمت مواجهتها.
إن أي اغفال أو تناسي حجم التآمر الذي تعرض له هذا النموذج، الذي ينبغي أن يوضع في الاعتبار أولاً، يجعل من أي رأي أو تحليل، غير علمي ولا واقعي وبعيداً عن الحقيقة قبل أن يكون مُجحِفاً. فالعامل الخارجي الذي أجهض هذا النموذج، كان دوره حاسماً، ليكون درساً للآخرين بعدم تجاوز الحدود المسموح بها لأي نظام سياسي في المنطقة. فالإجحاف الذي لحق بهذا المشروع، هو النظر إليه من زاوية السلبيات التي رافقته حصرياً وتناسي الدور الخارجي الفاعل في استهدافه ومن ثم اجهاضه.
خطأ وضع النماذج الثلاثة القومي والسوفيتي والإسلام السياسي في صفٍّ واحد:
أمر آخر يستدعي الاهتمام، هو وضع النموذج القومي والسوفيتي والإسلام السياسي على صف مقارنة واحد، وهنا لن نقارن بين هذه النماذج، ونكتفي بالقول إن الأول أُجهض بعامل خارجي، بينما الأخير رفضته الجماهير العربية بعد انكشاف ادعاءاته وخواء برامجه إلا من الهدم لكل البنى المادية والمعنوية. كل ذلك برغم الحاضنة التي وفرتها القوى المعادية للأمة وما رافقها من دعم مادي وإعلامي لا نظير له، لهذا نقول بصريح العبارة لا تصح المقارنة بين نموذج البناء (القومي) وما رافقه من ممارسة للحريات وإن لم يكن بمستوى الطموح، والدور الواضح للقطاع الخاص فيه، مع المركزية المطلقة للنظام السوفيتي سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الإعلام.
كما لا يمكن مقارنة النموذج القومي التنموي وفكره المنفتح على العالم المعاصر مع نموذج الهدم للحركات السياسية المغطاة بغطاء الدين والتي يطلق عليها البعض مصطلح الإسلام السياسي، مع المآخذ العديدة على هذا المصطلح، والتي تتطلب تفصيلاً ليس هذا المقال مكانه. ونظرةً لمآلات هذا النموذج، تنبئ بالحجم الهائل من الدمار الذي لحق بالأقطار التي تمكن منها. (1)
فالنموذج القومي مستند “إلى منظومة معارف ومفاهيم قد تختلف في مضمونها من دون أدنى شك في ثرائها وقوة هيكلها النظري الصوري أو الخارجي. أما نموذج الإسلام السياسي فإنه خطاب دعوي، فلا يعدو أن يكون خطاباً لفظياً، يتوسل بالشعارات والآراء الجاهزة وأحكام القيمة، ويجرب – فاشلاً – أن يقدمها بوصفها فكراً أو معرفة!” (2).
إن خطأ وضع النموذج القومي والسوفيتي والإسلام السياسي في صفٍّ واحد والاعتقاد بأن الحل يكمن في الديمقراطية الليبرالية الغربية، هو خطأ كبير لأنه يقفز من فوق حقيقة أنها محملة بالمعضلات والتناقضات، “وأن تاريخ الديمقراطية الليبرالية ينبئنا بأن مسيرتها كانت في اتجاهين، فمن جهة تم التأكيد على حرية الأفراد ضد السلطة والدولة، واسهام الافراد، من جهة أخرى، في إدارة الدولة” (3)، ويمكن الرجوع إلى المصادر العلمية المشهود لها لنرى حجم التناقضات الفلسفية التي يزخر بها هذا المصطلح كما سنرى لاحقاً.
الديمقراطية والحرية في الفكر القومي:
إن القارئ للفكر القومي سيجد بين دفتيه اهتماماً بالغاً بالحرية والديمقراطية بالرغم من اعطاء هذا الفكر مسألة الوحدة العربية أولوية لكونها مكمن قوة الأمة، وهي الأساس الذي تستند عليه الحرية والديمقراطية والعدالة والاجتماعية.
وبالرغم من بعض المحاولات التي تتسم بالقفز فوق الوقائع وتجنب التحليل العلمي الموضوعي، فإن الحقائق الواقعية التاريخية تشير إلى أن الأحزاب القومية شاركت في الانتخابات النيابية في العديد من الأقطار العربية منذ أوائل خمسينات القرن العشرين إلى يومنا هذا، حيثما أتيحت لها الظروف بذلك كما في سوريا والأردن ولبنان والسودان والجزائر وتونس.
كما أن الوقوع في خطأ تجاوز الواقع والموضوعية العلمية في التحليل، يشمل تضخيم بعض الأخطاء التي ظهرت في الممارسة (وليس في الفكر القومي ذاته) مما يؤدي إلى تشويه النموذج القومي، بحصر وصفه بالاستبداد وهيمنة الأجهزة الأمنية وحسب، في حين أن الواقع يشير إلى أن ممارسة الديمقراطية الشعبية قد تطورت فيه شيئاً فشيئاً مع عملية تحقيق العدالة الاجتماعية وإلغاء التمايز الطبقي وإتاحة كافة فرص التعليم والرعاية الصحية وأفضلها في العالم لكل المواطنين، دون أي تمييز بين فقير أو غني أو طائفة أو عِرق، إضافة إلى القضاء على الأمية واستكمال الوعي الاجتماعي بالديمقراطية. وفي هذا نحيل إلى بعض المراجع بهذا الصدد ومنها كتاب الدكتور عصمت سيف الدولة، (هل كان عبد الناصر ديكتاتوراً) (4)، لنرى كيف تعاملت تجربة ثورة يوليو مع مشاكل القطر المصري، في الجانب السياسي والديمقراطي.
أما في النموذج القومي في العراق فقد جرت أول انتخابات نيابية في حزيران 1980 ولولا الظروف الاستثنائية التي فرضتها الحرب الإيرانية العراقية لاتخذت العملية هذه الممارسة الديمقراطية الأبعاد المرجوة منها.
ورغم الاستهداف الغربي للأمة العربية في كل أقطارها وبشتى الصيغ، إلا أن القيادات والأحزاب والمثقفين القوميين في الوطن العربي قد فرزوا فرزاً واضحاً بين الحاجة إلى النضال من أجل تحقيق الحرية والديمقراطية من جهة، وبين سياسات الغرب الاستعمارية إزاء الوطن العربي من جهة أخرى. فلم يحدث الربط بينهما أبداً أو تحميل الديمقراطية وِزر تلك السياسات الاستعمارية الآخذة في التجدد دوماً. فقد خلا التراث الفكري لأي من الحركات القومية، أو أي من المفكرين القوميين العرب، من مهاجمة الديمقراطية.
كما أن الفكر القومي لم يمارس “تضليل الوعي” لكي يبرر أي شيء وتحت أي مسوِّغ اطلاقاً، بل على العكس تماماً فقد أعطى الكثير من قادته وكوادره تضحيات هائلة في سبيل ابقاء هذا الوعي صميمياً.
نقد نموذج واحد وهو “الديمقراطية” الغربية، لا يعني مهاجمة الديمقراطية الحقيقية
إن ما ميّز الفكر القومي التقدمي العربي هو انفتاحه على العالم ونظرياته وقوانينه، واصراره على المعاصرة وعلى تحقيق الموازنة في معادلة (الأصالة – المعاصرة). فكان ذلك الانفتاح وما زال انفتاحاً واعياً مدروساً. فلا ينبهر بالتسميات والنماذج البراقة المظهر، دون الغوص في حقيقتها. ولا يتقبل الصيغ الجامدة دون مواءمة لواقعنا العربي. ومن هنا فقد نقد الفكر والممارسة الستالينية والتجربة السوفيتية الأممية، كما نقد وبوعي “الديمقراطية الليبرالية الغربية”، وكشف جوهرها في كونها حرية القلّة وإطلاق يدها على الأكثرية من خلال عدة آليات وبنى تحتية تضمن السيطرة على الأكثرية. كما كشف حقيقة تحكم رأس المال والنخب العليا المالكة له في كل مفاعيلها.
ولكن في نفس الوقت فقد تفاعل الفكر القومي مع جوانب الديمقراطية الحقيقية بتبني دولة القانون التي يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقانون وحقوق الإنسان، والنظريات الاجتماعية، والجمعيات الأهلية غير الحكومية وغيرها. كما تفاعل مع بعض النظريات الفلسفية التي صدرت في الغرب والشرق، من نظريات العقد الاجتماعي لهوبز وجان جاك روسو، إلى نظرية الفصل بين السلطات لمونتيسكيو إلى أفكار جون لوك، إلى هيجل وماركس وانجلز، والقائمة تطول واعتبرها بمجملها إرث إنساني، أخذ منه الفكر القومي وتفاعل مع طروحاته. وقد قيّم الفكر القومي ونقد الماركسية والرأسمالية، وبجهد فكري خلاق، وشجاعة واستقلالية مشهود لها، على الرغم من استبداد نظام القطب الواحد من خلال دعوات الهيمنة والعولمة والأمركة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (1).
التحدي الصهيوني وانسداد الحل الديمقراطي لمواجهته
لقد تسببت الأنظمة التي سبقت قيام الثورات، بدفع الجيش لأخذ زمام المبادرة، فقد كانت المنطقة في الخمسينات تغلي على وقع نكبة فلسطين سنة 1948، وانسداد الحل الديمقراطي بالتغيير والمواجهة، مما دعا العديد من الأحزاب السياسية في الوطن العربي لتؤسس لها موطئ قدم في صفوف القوات المسلحة. فالتحدي الصهيوني، تطلب تحشيد كل طاقات المجتمع للمواجهة وهذا أمر طبيعي تلجأ إليه كل الأمم الحيّة لاستنفار كل طاقاتها البشرية والمادية لمواجهة تحدياتها الاستراتيجية.
إن تحدي الوجود هو الذي فرض المواجهة، فهل نسمي قيام مصر بعد ثورة يوليو بتأميم قناة السويس عام 1956، جراً لشعب مصر إلى الحرب؟، وفي الوقت الذي لا نعفي فيه النظام المصري من مسؤولية ما جرى في حرب 1967، إلّا أن التاريخ قد وثق تسبُّب التآمر الدولي في ذلك من خلال اعطاء ضمانات كاذبة للقيادة المصرية. كما لا يمكن أن نغفل أن الحرب كانت عدواناً صهيونياً استهدف الأمة بكاملها. ومع ذلك فإن النظام أعاد بناء القوات المسلحة، وهيأها لممارسة دورها في التحرير، وحرب الاستنزاف بين عامي 1968 – 1970، والانتصار في عبور القناة وتحريرها عام 1973 هي شواهد على ذلك إذ كانت نتاج ذلك البناء وتلك الاستعدادات.
وهل تصدي العراق للعدوان الإيراني في 4 ايلول 1980 كان جرّاً للشعب في العراق نحو الحرب، أم مواجهة لمشروع ولاية الفقيه الذي ثبت بأنه يستهدف كل الأمة العربية تحت غطاء الدين؟
أما عن الدور التخريبي للإسلام السياسي وما فرخه من أفاعي، فالأمر ما عاد سراً، كيف خطط تحالف الشر الأمريكي الصهيوني الإيراني، وبتوزيع منسق للأدوار في اختراق المجتمعات العربية، فكرياً وعملياً وصولاً إلى تمكين هذا النموذج من الصعود إلى السلطة تحت ادعاء كاذب هو حاجة الجماهير للانعتاق من “الأنظمة المستبدة”. فلم يتحول نموذج الإسلام السياسي إلى حالة بناء، بل كان عامل هدم للمجتمع وللدولة القطرية المأزومة أساساً أزمة بنيوية لا تستطيع الفكاك منها بسبب غياب التكامل القومي العربي (1).
الديمقراطية والليبرالية
نظرياً فإن الديمقراطية تعني حرفياً عند انطلاقها بالأصل من اليونان «حكم الشعب»، وهي شكل من أشكال الحكم حيث من المفترض أن يشارك فيها جميع المواطنين على قدم المساواة، إما مباشرة أو من خلال ممثلين منتَخَبين عنهم، في تطوير واستحداث القوانين التي سيعيشون في ظلها. وهي تشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.
أما اللِّيبرالية فهي فلسفة سياسية تأسست على أفكار الحرية مثل حرية التعبير، والأهم من ذلك السوق الحر أو اقتصاد السوق. وتقوم الليبرالية على الإيمان بالنزعة الفردية على حساب النزعة الجماعية.
وهناك خطأ شائع بأن الليبرالية والديمقراطية هما كلمتان متماثلتان في المحتوى والأهداف. لذا فإن توضيح هذا الأمر وعدم الخلط بينهما هو مسألة ضرورية، خصوصاً بعد أن علت أصوات المنادين بتبنّي الأيديولوجية الليبرالية كحل سحري سريع للمشاكل التي عانت وتعاني منها الأمة العربية، وكواجهة لحرية القلّة الرأسمالية المهيمنة على الاقتصاد والإعلام والأمن في الغرب من خلال اقتصاد السوق، لذا فإن الإيديولوجية الليبرالية معنية في الدرجة الأولى بالفرد، فهي نظرياً مهووسة بالفردية، وما يسمى بالحرية الشخصية، مهما بلغ مدى انحرافها أو ضررها الفادح على أخلاقيات وقيم المجتمع. بينما الديمقراطية معنية في الأساس بالجماعة والمجتمع، فركن الديمقراطية يضع في المقام الأول الحرية بمعانيها وممارساتها الشاملة من جهة، كما يضع في سلّم أولوياته موضوع المساواة من أجل مصلحة الجماعة من جهة ثانية.
في ضوء هذين المنطلقين المختلفين يستطيع الإنسان أن يفهم التناقض التاريخي الذي وقع فيه الغرب بين النظرية والتطبيق في قضية الليبرالية، من خلال هذه الحقيقة التاريخية: فلقد وقف الليبراليون في الغرب مع القوى المحافظة في السياسة (5).
أما بالنسبة للديمقراطية فمن الناحية الواقعية، نجد أن الغرب الذي جاء بالنظام الديمقراطي، يعيش الآن أزمة ديمقراطية حقيقية. وهذا يفسّر صدور الأعداد الكبيرة من الكتب الناقدة للحداثة والليبرالية والديمقراطية فيه، حيث تحدث الأزمات السياسية والاقتصادية والثقافية التي يعيشها الغرب الآن في ظلّ النظام العولمي الرأسمالي المتوحش الجائر الخاضع لقيم السّوق فقط (5).
العوامل التي تساهم في نَخْر النظام اللّبرالي
هناك عوامل أدت وستؤدي إلى نخر النظام الليبرالي ومن بين أهمها إضافة إلى الأزمات المذكورة أعلاه، هي محاربة الأسرة، وسن قوانين لحماية المثلية، واعتبار المثلية عقيدة الدولة، ووضع قوانين لمنع الوالدين من تنشئة الأبناء، في تناقض واضح مع حقوق الإنسان والحرية الشخصية للوالدين، واستعمال كل ما تملكه الدولة الحديثة من إمكانيات لفرض نظام اجتماعي جديد ليحل محل الأسرة. وهذا السلوك الجديد يعطي مبرراً إضافياً لأمتنا بالاعتزاز بمقوماتها الثقافية والحضارية. ومن هنا فإن المتبصر في مجريات الأمور على أرض الواقع، وليس النظريات البرّاقة، يعرف أن المشروع الليبرالي، بدأ بحفر قبره بيده، وأن المشروع القومي في وطننا العربي له البقاء، فهو ابن هذه الأرض وابن هذا المجتمع.
ومن بين العوامل الأخرى هو ما حدثت من قهر وبشاعة في الساحة العراقية تحت اسم اللبرالية، حيث قام الغرب بتقديم أبشع نموذج لما يسمى بالفوضى “الخلاقة”، فمارس القتل والاستبداد وتدمير الموروث التاريخي للأمة وحرق مكتباتها وسرقة الموارد وتغيير الطبيعة السكانية بالعنف والتهجير. وكل ذلك باستخدام كل وسائل العنف والوحشية غير المسبوقة في التاريخ (6)، معطياً أسوأ نموذج للعالم لليبراليته المزعومة، ومساهماً بنفسِه في نخرِها.
إن رأي البعض في أن الليبرالية هي الحل، هو محل اعتراض كبير في وطننا العربي وفي العالم، حيث أنه بالإضافة إلى أزمات الليبرالية المذكورة أعلاه، فإن النفور من الليبرالية ناتج من اعتبارها مرادفة بوجه الإجمال، للنظرة الأمريكية إلى الحياة أو النزعة الهادفة إلى التشكيك في الدين وتهديم أواصره، أو للنزعة الهادفة إلى تحرر الأفراد من كل تقليد وسلطة، الأمر الذي يؤدي إلى الاضطراب والفوضى (7).
إن اعطاء مضمون فلسفي للديمقراطية أوسع من مفهومها الأولي واعتبارها نظاماً اجتماعياً سياسياً يستخدم الانتخاب كآلية لتكوين سلطة محكومة بثلاث مبادئ هي السيادة الشعبية، والحرية الفردية، والمساواة بين المواطنين (8)، يستوجب وضع الديمقراطية في وعاء الفلسفة. وهنا نتساءل، هل البعد الفلسفي للديمقراطية يستوعب تحولها إلى نظام شامل للحياة؟، فإذا كانت كذلك فماذا يتبقى للإيديولوجيات والأفكار الكبرى.
إنها دعوة للمناقشة واثراء الموضوع، فلا خلاف في أن الحل يكمن في دولة مدنية يسودها القانون، الدولة التي يخضع فيها الحاكم والمحكوم للقانون، والتي يتقرر فيها مبدأ الفصل بين السلطات، تعتمد الانتخابات النزيهة وسيلة لاختيار من هم الأكفأ لمواقع السلطة، ترادفها الحرية المسؤولة، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية بتوفير الخدمات الأساسية لكافة المواطنين ومنع الاستغلال.
الخصوصية القومية في تشكيل النظام السياسي
إن تأطير المصطلحات بالفكر والفلسفة مهمة مطلوبة حيث تتوضح المفاهيم بعيداً عن اللبس والغموض، ويقابل هذا الأمر، أن تتحول الديمقراطية من أسلوب للحكم وممارسة السلطة، واعطائها بعداً ايديولوجياً وجعلها نظاماً سياسياً (وسيلة وغاية في آن واحد)، والباسها لبوس الفلسفة، وهذا ما يقدمه بعض المفكرين، وهو جزء من مهماتهم في تقليب الأفكار وانضاجها. إلا أن الواقع السياسي، وخاصة واقع الدولة القطرية يحتم أن يخرج الحل من عباءة الأساس الفكري والإرث التاريخي للفكر القومي، الذي نرى أنه الوحيد القادر على النهوض والتقدم بهذا الخصوص، بحكم التجربة، والتراكم النظري والأيديولوجي الذي يزخر به، “فالحياة الديمقراطية لا تتعارض مع الأيديولوجية، بل تعني أيضاً أن حيوية الديمقراطية مرتبطة إلى حد ما بحيوية الايديولوجية وخصوبتها” (9).
في العادة فإن كل ظاهرة سياسية تنتهي بانتهاء وجودها، أما المشروع القومي والفكر القومي في الوطن العربي فما زال يمتلك مبررات، ومقومات، وجوده العملي والفكري. وهذا يحتم الحصانة تجاه الانجرار أو الاهتزاز أمام الحملات الإعلامية الموجهة لشيطنة الفكر القومي ونماذجه التي رفعت راية النضال القومي في مواجهة أعتى الأعداء. فليس مهماً كيف يكون شكل النظام السياسي، بل المهم مضمونه، فصياغة هذا المفهوم ليس أمراً عسيراً، مسترشدين في ذلك بالإنتاج الفكري الثر للعديد من المفكرين العرب، فتتحقق الخصوصية القومية في تشكيل النظام السياسي، خصوصية منفتحة على الفكر الإنساني، تستلهم تراث الأمة وقيمها الحضارية. وتقدم للأمة والإنسانية نموذجاً يُحتذى به.
المصادر:
1- د. نضال عبد المجيد، الفكر القومي العربي طريق التقدم، حزيران 2023
2- عبد الإله بلقزيز، الدولة في الفكر الاسلامي المعاصر، ص (٢٦٥)
3- الدكتور منذر الشاوي، فلسفة الدولة، ص (٧٧١ – ٨٠٤)
4- الدكتور عصمت سيف الدولة، هل كان عبد الناصر ديكتاتورا.
5- د. علي محمد فخرو، بين الديمقراطية والليبرالية، صحيفة الخليج، 9 أغسطس 2018
6- سعدون المشهداني، مداخلة خاصة
7- ناصيف نصار، باب الحرية، ص٤٧
8- ناصيف نصار، الديمقراطية والصراع العقائدي ص٢٣.
9- ناصيف نصار، الديمقراطية والصراع العقائدي، ص 9