أيام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر
في هذه الايام المشرقة حيث ينتفض شباب الامة في فلسطين والعراق وقبل ذلك في لبنان والسودان والجزائر حاملين دمهم على أكفهم لتحرير الأرض والإنسان مدافعين عن حرية الامة واستقلالها ، ومن اجل ابقاء راية العروبة حية خفاقة نستذكر اليوم اياماً مشرقة في تاريخنا العربي المعاصر تحققت فيها انتصارات مجيدة تتزود من عبقها الاجيال الصاعدة العزيمة والثقة لمواصلة كفاحها الضروس دفاعاً عن عروبة الامة وحقها في الحياة الحرة الكريمة.
فعلى الرغم من أن هناك أحداثاً وملاحم جرت في بقعة معينة من الوطن العربي ، لكن امتد اشعاؤها ليضيء لنا على امتداد الوطن الكبير ، إما لأنها كانت دفاعاً عن وجود ومصالح ومستقبل الأمة وبجهد مشترك ، أو انها أدت في نتائجها وانعكاساتها إلى حماية المصلحة القومية وتعميق التلاحم العربي فصارت معالم وأياماً مشرقة في تاريخنا العربي نستلهم منها القيم والدروس ونتزود من تفصيلات مجرياتها بشحنات من العزم لتجدد فينا روح الوفاء والإقدام والتضحيات في معاركنا الراهنة في مواجهتنا لأعداء الأمة من قوى الشر والعدوان حماية لمصالح الأمة وخياراتها ودورها الرسالي الانساني.
برنامج أيام مشرقة في التاريخ العربي المعاصر يسلط الضوء على هذه الأحداث ويتناول بعدها القومي وتأثيراتها ودورها في التلاحم النضالي بين أبناء العروبة. من هذه الأيام الخالدة في تاريخنا العربي المعاصر هي عملية سفليت البطولية2019.
عملية سفليت البطولية
حجر الزاوية
د. وحيد عبد الرحمن
لم يكن عمر ابو ليلى قد ولد بعد، أيام الانتفاضة الأولى، بل ثورة الحجارة، تلك التي انطلقت في الثامن والعشرين من أيلول سبتمبر عام 1987 والتي فجرها ذلكم الأطفال والشباب الفلسطيني بعدما بلغ الأمر حدا لا يطاق من الممارسات العدوانية الإسرائيلية، ومحاولات التهويد، ونسف البيوت، واعتقال الآلاف من المواطنين، وفرض العقوبات الجماعية، ومصادرة الاراضي، وحرق المزارع، والسعي الخبيث والحثيث لإذلال الشعب الفلسطيني، وصولاً الى حرمانه من هويته الوطنية. فكان سلاح الأبطال الحجارة لا غير، فهم لا يملكون سوى الانتماء للأرض التي زودتهم بهذا السلاح الفتاك فقتل 160 جنديا صهيونيا، وجعل الصهاينة المغتصبين للأرض والمستوطنين في فزع وخوف ورعب على أمد ست سنوات، وليرووا ذلكم الابطال بدماء شهدائهم العطرة ذات الأرض المعطاء، وليرووا قصص البطولة والفداء الى الأجيال الصاعدة، ليستلهموا منها كل معاني الشجاعة والبسالة والكرامة والعز.
وكان ذلك الطفل الصغير قد ولد مع ولادة الانتفاضة الثانية التي انطلقت في ذكرى الأولى من عام 2000، بعدما دنست أقدام المجرم الإرهابي ارييل شارون ارض المسجد الأقصى المبارك، فبلغ السيل الزبى، في فكر وسلوك الأحرار من الشباب الثائر، ولم يبلغ سوى الخمس سنوات من العمر عندما توقفت الانتفاضة، بعدما قتل الثوار أكثر من ألف صهيوني وأكثر من أربعة آلاف وخمسمائة جريج من العسكريين والمستوطنين، فلم تسنح له الفرصة للمشاركة، بل كان ينظر الى الأبطال الذين لم يبالوا في سقوط الشهداء من رفاقهم بين أيديهم ، بل كانت الشهادة هي العنوان والنموذج التي استلهم منها الطفل (عمر أمين) بطل قصتنا كل معاني الإيثار والثأر، فكان أمينا كما اسم ابيه على الأخذ بالحق العربي في فلسطين بطريقته المثلى التي ارتضاها لنفسه، مثلما استلهم تلك القيم العظيمة والمبادئ القويمة والمثل العليا من اسمه الذي اقترن بأبي حفص الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وشيخ الشهداء عمر المختار، وبطل تحرير جنين عمر علي.
فأمه التي ارضعته الحنان وحب الوطن والإيثار غرست في نفسه كل معاني الشجاعة التي جسدها هؤلاء الابطال في تاريخ الامة القديم والحديث.
ومثلما تربى عمر على قيم الشهادة والشجاعة، فقد استلهم معنى المقاومة من سميه شيخ الشهداء عمر المختار الذي ابلى بلاءا حسنا في خبرته وتكتيكه في حرب العصابات من على فرسه وبندقيته في العشرينات من القرن الماضي في مقاومة جيش الاحتلال الإيطالي لليبيا دون كلل أو كسل أو ملل، وهو شيخ كبير أخذ منه العمر عتيا، فما كان من المحتل الا أن قرر إعدامه كمحاولة بائسة ويائسة لإضعاف الروح المعنوية للمقاومين، دون العلم بأن ذلك الأمر سيؤدي الى توهج شعلة المقاومة أكثر سعيرا حتى التحرير. وهكذا هي السيرة والمسيرة التأريخية لكل أنماط المقاومة ضد المحتل.
وهكذا يستمر عمر ابو ليلى في بناء شخصيته البطولية كرفاقه الذين كانوا يتداولون في المدرسة الثانوية وبعدها في جامعة القدس المفتوحة، كيف تمكن القائد العسكري العراقي البطل عمر علي، بفطنته وشجاعته، وبسالة جنده من تحرير جنين من الاحتلال الصهيوني عام 1948 بعدما خاض معركة شرسة بين قوته قليلة العدد التي قوامها 822 مقاتلا شرسا وبين قوة صهيونية قوامها عشرة الآف مقاتل، مستلهما قوله تعالى (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله)، وتبقى مقبرة شهداء الجيش العراقي في جنين شاخصا وشاهدا ابديا لشجاعة ابطال العراق، وفنارا ومنارا يستلهم منه أطفال وشباب فلسطين هذه المعاني العالية.
عمر الطفل الفلسطيني الصغير ولد وترعرع في قرية اسمها الزاوية، القرية التي نضبت منها الحجارة في مقاتلة العدو، فأخذ يفكر بسلاح بديل عن حجر الزاوية، ليقاوم المحتل به، وكان يعشق ويردد دوما انشودة أم كلثوم (أصبح عندي الآن بندقية الى فلسطين خذوني معكم) والتي كتبها نزار قباني إبان الكفاح المسلح الفدائي الفلسطيني بعد عام 1967، فكيف السبيل للحصول على بندقية؟
أصبح عمر ابو ليلى بعمر واحد وعشرين عاما. وفي صباح ذلك اليوم الربيعي الجميل من شهر آذار مارس عام 2019 في تلك القرية البسيطة دعته أمه لتناول طعام الإفطار، فأخذ يتناول الطعام ويتطلع الى السكين المطروحة على المائدة، ويسأل نفسه هل يمكن أن تكون هذه السكين سبيلي للوصول الى البندقية؟ وأخذ يدندن.. أصبح عندي الآن بندقية، ويخطط.
وما أن أكمل فطوره حتى انطلق من الزاوية يحتضن تلك السكين، متجها الى مستعمرة ارئيل القريبة من قريته. فوجد فريسته الأولى، الجندي الصهيوني غال كيدان يحرس مقرا وفي يده بندقية من طراز (M16)فطعنه بالسكين واستولى على بندقيته، وقتله في الحال برصاصها، واخذ يتجول في المكان ويطلق الرصاص حتى شاهد الحاخام احيعاد إنغنر فأطلق النار عليه وارداه قتيلا، واستولى على سيارته، وغادر مكان العملية وهو يقود سيارة الحاخام بسرعة عالية حتى وصل الى مفترق مستعمرة غيتي أفيخاي، فاطلق النار باتجاه جندي ثالث فقتله، وكل هذا الحدث الكبير لم يستغرق من بطلنا عمر سوى ربع ساعة فقط، حتى وصل بلدة بروقين غرب مدينة سلفيت حيث ترك السيارة واختفى بعدها في قرية عبوين شمال مدينة رام الله . ولم تتمكن قوى الأمن الصهيوني من اكتشاف مخبئه الا بعد ثلاثة أيام فوجهت اليه ثلاث كتائب من خيرة نخبهم لمقاتلته وهو يقاومها بما تبقى من رصاص تلك البندقية التي طالما حلم بها حتى ارتقى شهيدا في عليين.
إنها عملية سفليت البطولية التي خلدها الشهيد البطل عمر ابو ليلى وجسد فيها أعلى درجات الفداء والانتماء للأرض والعقيدة، وهي العملية التي دب فيها الفزع في نفوس المستوطنين، وقضت مضاجع الاحتلال الصهيوني برمته.
وكانت ردة فعل الجماهير الفلسطينية باطلاق اسمه على الكثير من المناسبات كالدورات العسكرية والمهرجانات تخليدا له بآعتباره بطل من ابطال فلسطين حيث قدم روحه فداء لفلسطين .
هكذا هم شباب العروبة في فلسطين والعراق وكل اقطار الوطن الكبير، يحملون عزم لا يلين وحزم لا يستكين، وان تمتعوا باستراحة مقاتل لوقت قصير فإنهم سرعان ما ينهضون وينتفضون ضد الظلم والعدوان والاحتلال وضد الخونة والعملاء. فحيا الله ثورتي الاقصى في فلسطين وتشرين في العراق. وما النصر الا من عند الله.