المِنَصّة الَشبابيّة
انطلاقا من حقيقة ان الشباب هم صناع الحاضر العربي وجوهر قوته وحيويته وهم قادة مستقبله ، فقد تم تأسيس هذه المنصة الشبابية لتكون باباً جديداً من ابواب النشر لمكتب الثقافة والاعلام القومي لتطل على الشباب العربي من خلال مناقشة شؤونه و طرح قضاياه الراهنة و التعبير عن تطلعاته المستقبلية. وهي مخصصة حصرياً لنشر كتابات الشباب وابداعاتهم في المجالات الفكرية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والاعلامية وذلك لتعميق مساهمتهم في الدفاع عن قضايا امتنا العربية وصناعة مستقبلها. كذلك فان المنصة تعنى بمتابعه مايصدر من موضوعات ثقافية واعلاميه وفنية في وسائل الاعلام العربية ودول المهجر والتي لها علاقة بقضايا الشباب في الوطن العربي، وترجمة ونشر ما يخدم منها في مواجهة تحديات الامة وتحقيق نهضتها الحضارية الشاملة .
بين الذكاء الاصطناعي والإبادة:
( تقنية بلانتير وأكس كارب – الوجه المظلم للتقنية في الصراع العربي -الصهيوني)
– الجزء الاول –
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة
مقدمة:
في عالمٍ يُسوّق فيه الذكاء الاصطناعي كأمل الإنسانية الجديد، ورغم وجود استخدامات مفيدة له، يتكشّف وجهٌ آخر أكثر قتامة: خوارزميات لا تصنع العدالة، بل تبرمج القتل، وتعيد تعريف الإنسان كمعطى قابل للحذف. في مقدّمة هذا الوجه، تتربّع شركة (بلانتير Palantir) الأميركية، بقيادة أليكس كارب، ليس بوصفها مجرد منتج للتقنيات، بل كفاعل سياسي وأمني يُعيد تشكيل الجغرافيا البشرية بمنطق إحصائي صارم. يعتمد هذا التحليل على النظرية النقدية للتقنية وبيانات ميدانية من تقارير حقوقية وتسريبات إعلامية. بالإضافة الى المقارنة مع نماذج عالمية للقمع الرقمي.
في قبو مظلم من أقبية التكنولوجيا، حيث تُحاك القرارات بعيدًا عن ضجيج الضمير، يجلس مهندسو الموت الجدد ليبرمجوا نهاية العالم، ليس بقنابل نووية، بل بأسطر من الشفرات. بلانتير تكنولوجي، تلك الشركة التي يقدمها رئيسها أليكس كارب كـ(فيلسوف العصر الرقمي)، لم تعد مجرد منصة تحليل بيانات، بل أصبحت مصفاة بشرية تُديرها خوارزميات لا تعرف الرحمة، وتُعيد إنتاج الاستعمار بأدوات القرن الحادي والعشرين.
في العدوان على شعبنا العربي في فلسطين وغيرها من ساحات الدم، لم تكن التكنولوجيا (مساعدة)، بل حاسمة في تحديد من يعيش ومن يُمحى. لقد أصبح الذكاء الاصطناعي امتدادًا للسلطة بأدوات رقمية، يُصنّف البشر إلى أهداف بناءً على متغيرات، ويتعامل مع القتل كعملية حسابية. ومن هنا، تبرز ضرورة مساءلة الجذر الفلسفي والأخلاقي لهذا التحول: هل ما نعيشه هو حقبة جديدة من التقدم، أم مرحلة متقدمة من الانهيار القيمي والعنف المقنن؟ هذا المقال يحاول أن يفكك البنية المعرفية التي تسمح بتحويل أدوات التفكير إلى وسائل للإبادة، ويعيد طرح سؤال جوهري: هل تحررنا التقنية، أم تستعبدنا بطرق أكثر نُعومة وفتكًا؟
إن ما يجري هو (الإبادة الرقمية المنظمة) – الإبادة الجماعية المُبرمجة مسبقًا عبر أنظمة مثل (لافندر) و(أكس كارب)، التي تحوّل الفلسطيني إلى (نقطة بيانات) قابلة للحذف بضغطة زر. فمن هي ابرز الجهات المعنية ؟
أولًا: بلانتير ووحدة الاستخبارات 8200 ( التحالف السيبراني لبرمجة القتل)
لم يكن تأسيس مركز بلانتير في الكيان الصهيوني عام (2013)، بالتعاون مع وحدة (8200) الاستخباراتية، مجرّد توسّع تكنولوجي في حقل الاستخبارات، بل كان لحظة فاصلة تؤسس لما يمكن تسميته بـ (الذكاء الاصطناعي السيادي)، حيث تتحول الآلة من أداة للتحليل إلى فاعل ميتافيزيقي يعيد تعريف (العدو)، ويعيد برمجة الموت ذاته.
في هذا التحالف القاتل، يُعاد إنتاج الإنسان عبر ثلاثية: البيانات – التوقع – التصنيف، حيث تُحوَّل حياة شعبنا في فلسطين إلى أنماط اتصال، وتحركات مرصودة، وعادات اجتماعية قابلة للتفكيك والتكميم. خوارزميات بلانتير لا تُحلل فحسب، بل تحكم وتُصدر الأحكام بالقتل وفق منطق لا إنساني مبرمج :
- من يرسل رسالة؟ → هدف محتمل.
- من يتردد على حي معين؟ → تهديد إحصائي.
- من له علاقات قرابية ممتدة؟ → شبكة إرهابية محتملة.
إن التحالف بين بلانتير ووحدة (8200) لا يعكس فقط اندماجًا استخباراتيًا، بل يُجسّد عقلًا جديدًا ما بعد-إنساني، حيث يُختزل الفرد في مدخلات رياضية، ويتم تعليق القانون لصالح (برمجية الاستثناء). فالمجال الحربي هنا لم يعد ساحة للصراع، بل معملًا للقتل الحسابي الذي لا يحتاج إلى ضمير.
إنها لحظة سقوط الكائن البشري في قبضة المعادلات، حيث تتحول الحياة إلى مجرّد سلسلة من الإشارات الرقمية، وتُستبدل المسؤولية الأخلاقية بجدوى الأداء. بهذا، تُصبح الحرب تجربة (ما بعد أنثروبولوجية)، تُدار لا من خلال الجنود، بل من خلال شفرات خوارزمية تُنفَّذ بلا تردد.
ثانيًا: نظام (لافندر)، الذكاء الاصطناعي بوصفه بنية للقتل البارد، لافندر هو نظام ذكاء اصطناعي يعمل على جمع البيانات من الهواتف ووسائل التواصل. والقيام بالتحليل الاحتمالي، حيث يُصنف الأشخاص بناءً على علاقاتهم الجغرافية والاجتماعية. ومن ثم اتخاذ القرار، وذلك بتحديد (الأهداف) دون تدخل بشري في معظم الأحيان.
كما أن نظام (لافندر) لا يمثّل مجرّد أداة مساعدة للمخابرات، بل هو تجسيد لعصر (القتل الاحتمالي) حيث تُبنى قرارات الإعدام على مؤشرات سلوكية تستخلصها الخوارزميات من أنماط الاتصال، وسجل المواقع، وحتى توقيت النوم والاستيقاظ.
إنه نظام لا يُحاسب على نيات أو أفعال، بل على تجاور البيانات، على تشابه رقمي مع آخرين تم تصنيفهم مسبقًا. يتحول الإنسان إلى (دالة احتمالية) في منظومة رياضية تلغي الشرعية الأخلاقية وتستبدلها بعتبة إحصائية هي:
- X اتصالات مشبوهة + Y مواقع معينة = احتمال تهديد 0.83.
- إذا تجاوزت العتبة 0.7 → قصف تلقائي
وباسم هذا (الذكاء)، تُبرّر المذابح باعتبارها (حسابات خاطئة مقبولة)، أي أن نسبة معينة من القتلى الأبرياء تُدمَج مسبقًا في التصميم الإحصائي كـ (خطأ متوقَّع). هنا، يفقد الموت قدسيته، ويتحوّل إلى نتيجة (جانبية) لتقديرات رياضية ، لا أحد مسؤول عنها، ولا أحد يحزن لها.
كشف تحقيق (972 (2023: أن لافندر يُولِّد الأهداف تلقائيًا بحد أدنى للتدخل البشري، حيث يتم تصنيف أي شخص يتصل بـ 3 أشخاص مشتبه بهم كـ (هدف شرعي).
ثالثًا: نظام لافندر كخوارزمية سياسية حيوية Biopolitical
حين تُدار الحياة والموت عبر الرياضيات: لافندر لا يعمل فقط كأداة استخبارات، بل كمنصة لـ إعادة إنتاج السلطة الحيوية (biopower) في عصر الذكاء الاصطناعي. فالحياة لم تعد تُدار بقوانين انسانية أخلاقية أو حقوقية ، بل بثلاث عمليات أساسية هي :
- التجريد المعرفي (Epistemic Abstraction) : وفيه يُختزل الإنسان إلى مدخلات يمكن قراءتها ومعالجتها وفقا لما يلي :
أ. عدد المكالمات التي يجريها
ب. المواقع الجغرافية التي يتواجد فيها
ت. قائمة الاتصالات العائدة له
ويُجرّد من سياقه الثقافي والتاريخي والاجتماعي، ليُعاد إنتاجه ككائن قابل للتصنيف في جداول إلكترونية.
- التعليب الأمني (Security Packaging) حيث يُعاد تعريف الخطر في ضوء نموذج رياضي، لا سياسي أو أخلاقي. يُصبح التهديد مشتقًا من علاقة رياضية بين متغيرات، ليُحوّل الخطر إلى نمط ، والقرار إلى ناتج معادلة.
- التطهير الرقمي (Digital Cleansing) يُحوَّل الضحايا إلى (قيم شاذة outliers) تُستبعد من قواعد البيانات عن طريق القصف أو التصفية. فلا يُسجل موتهم كجريمة، بل كخلل في النظام يُعالَج بـ (تحديث خوارزمي).
بهذا، نعيش لحظة انهيار المعنى الأخلاقي، حيث تُدار الحرب عبر لوحات تحكم، ويُقاس النجاح عبر مؤشرات الأداء، لا عبر الكرامة أو القانون.
رابعًا: ألكس كارب، الفيلسوف الذي يبرمج العنف بوجه ناعم
رئيس شركة بلانتير، ألكس كارب، لا يتحدث كلغوي تقني، بل كـ (فيلسوف نظامي) يبرّر الانتقال من الأخلاق إلى الأداء. فهو يخلع على التقنية عباءة أخلاقية مزيّفة، مقدّماً نفسه كحامٍ للديمقراطية، بينما أدواته تُستخدم في سحق المجتمعات وتفكيك النسيج البشري لشعبنا في فلسطين. وفق ما يلي :
- يصف التضامن مع فلسطين بأنه (عدوى أيديولوجية).
- يدعو إلى عزل المعارضين كما يُعزل المرضى
- يجلس على طاولة الاستثمارات في مشاريع مثل (نيوم)، بينما تُوظّف تقنياته في ملاحقة الفقراء والأبرياء في فلسطين.
كارب لا يبيع فقط برامج، بل يبيع نظرة للعالم: عالم تُدار فيه السياسة كخوارزمية، ويُختزل فيه الإنسان إلى ملف بيانات. إنه يُنتج فلسفة قاتلة ترتدي قناع الحداثة، وتحول الموت إلى قرار تنفيذي في (نظام تشغيل).
ما نشهده اليوم ليس فقط تطورًا تكنولوجيًا، بل تحوّلًا في بنية التفكير السيادي. فالحرب لم تعد عملًا سياسيًا بل أصبحت مشروعًا خوارزميًا؛ والمجزرة لم تعد فعلاً مشينًا بل (انحرافًا مقبولًا) في مصفوفة إحصائية.
هذه الأنظمة – بلانتير، لافندر، وحدة (8200) – لا تقتل فقط الأجساد، بل تقتل الفهم، تُشوّه الضمير، وتُعطّل فلسفة الحياة. إنها تعيد تشكيل علاقتنا بالموت، بالعدو، بالآخر، وبالإنسانية نفسها.
في عالم تحكمه خوارزميات، وتُقاس فيه الأرواح بنسب النجاح، يجب أن نعيد السؤال الفلسفي الجوهري: من يملك حق تعريف العدو؟ ومن يملك حق المحو؟ فربما أخطر ما في الذكاء الاصطناعي العسكري ليس قدرته على القتل، بل قدرته على إعادة تعريف المعنى ذاته.
خامسًا: التكنولوجيا كأداة استعمارية جديدة، من الاستعمار الكلاسيكي إلى الشفرة الخبيثة لم تعد السيطرة الاستعمارية في عصرنا ترتدي خوذة الجندي أو تحمل بندقية، بل تلبس اليوم بدلة المبرمج وتختبئ داخل شفرة برمجية وخوارزمية ذكية. بلانتير، في هذا السياق، ليست مجرد شركة برمجيات، بل تجسيد حديث للهيمنة التي تتغذى على بيانات المستضعفين وتُعيد تشكيل الجغرافيا الأخلاقية للعالم. هي نموذج صارخ لتحالفات مشبوهة تمزج بين رأس المال التقني والقوة الجيوسياسية والعسكرة المؤتمتة. ومن أبرز ملامحها ما يلي:
- إن العقود العسكرية ليست مجرد خدمات بيانات، بل مشاريع لإعادة تعريف الحرب: كيف تُدار، ومن يُقتل، وبأي حقّ. فما كانت القوى الاستعمارية تفعله بالبوارج والسفن تفعله اليوم بالخوادم والذكاء الاصطناعي.
- الأجهزة الاستخباراتية في هذا السياق لا تجمع المعلومات فحسب، بل تُبرمج العالم وفق نظرتها الأمنية، وتجعل من “التهديد” تعريفًا قابلاً للتخصيص حسب مصالح القوى الكبرى. لم تعد السيادة تُخرق عبر الحدود، بل عبر الشفرات، والتجسس، والتصنيف الآلي للفئات الخطرة.
- اختبار التكنولوجيا في الأجساد المهمشة – من شعبنا العربي في غزة، إلى الأميركان الأفارقة في أمريكا، إلى اللاجئين في أوروبا – هو امتداد لمختبرات الاستعمار القديم. لم يُعد البشر يُعامَلون كضحايا، بل كبيانات قابلة للتنميط والإبادة الرقمية.
أثبتت تقارير من منظمات مثل (هيومن رايتس ووتش) و (أمنستي) استخدام الذكاء الاصطناعي في استهداف مدنيين، حيث قام نظام لافندر بتحديد أهداف عشوائية في غزة بفلسطين بناءً على معايير إحصائية فضفاضة، مما أدى إلى مقتل مدنيين مثل عائلة أبو عطوة في تفجير (يوليو 2022) .
ومثلما تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي الصينية في اضطهاد (الأويغور) كمنصة Sharp Eyes ، يوظف الكيان الصهيوني التقنية لتعزيز الاحتلال عبر آليات متشابهة: التصنيف العرقي، وذلك بأن كلا النظامين يعتمدان على بيانات السلوك والعلاقات. والتطهير الرقمي، وذلك بحذف الأفراد من الخدمات الأساسية بناءً على خوارزميات.
إزاء كل هذه التطورات، ماذا ينبغي على العرب فعله ؟.
هذا ما سيتم تناوله في الجزء الثاني.
يتبع لطفاً…