تجميد الأفكار وتقديسها
إعلان وفاة لنعمة الإبداع
حسن خليل غريب
رب سائل يتساءل لماذا نتناول هذا الموضوع في جو عالمي ملتهب، وهو على أبواب حروب دولية، إما مباشرة وإما بالواسطة؟ سواءٌ أكان على الأرض العربية، أم كان على غيرها؟
وأما السبب فلأن تلك الاحداث هي نتاج التطورات الفكرية والتقنية والاقتصادية العالمية التي تتقدَّم بما لا نستطيع أن نصف سرعتها، بينما النهضة والحضارة العربية قد توقَّفت منذ قرون عديدة ولا تزال. ونجد السبب في تأثير عدة عوامل لجعل العقل العربي مكبّلاً، بعيداً عن الإبداع والتطوير وبالتالي متخلفاً عن مواكبة تلك التطورات او مواجهة تحدياتها، فاصبح مجرد ملحق بها، منفعلاً من دون تقدُّم، تاركاً فراغاً كبيراً راحت تملؤه كل الأفكار المعادية لمصالح الأمة العربية.
إن التطورات الخطيرة الحالية على الساحة الدولية ستفرض من دون شكّ على امتنا تحديات كبرى لابد من مواجهتها ان عاجلاً ام آجلاً ، الاّ ان ذلك لن يتم من دون الاستعداد وامتلاك مقومات ذلك، وفي مقدمتها اطلاق مكامن الإبداع في العقل العربي وتحريره من كل ما يكبله ويجمّده.
وفي استراحة للعقل من هموم السياسة محطة ضرورية يتخلَّص فيها من عناء التحليل والاجتهاد في تفاصيل الواقع وتعقيداته، وفيها ما يسهم في إنتاج آليات معرفية تساعد على تفكيك تعقيدات الواقع المعاش والارتقاء به إلى مستوى الإبداع الفكري النظري والعملي .
ومع الاعتراف بأن وراء كل وسيلة عظيمة للانتاج المادي والاجتماعي والسياسي نظرية فكرية، نعتبر أن الإبداع والأغلال نقيضان لن يلتقيا. ومن أجل ذلك جاء مقالنا هذا ليعيد إلى الأفهام أهمية انعتاق الفكر من قيود بعض المسَلَّمات، نبدأها بالتساؤلات التالية:
كيف للقلم أن يكتب بينما تكون اليدان مكبَّلتان بأغلال من حديد؟
وكيف للعقل أن يفكر وهو غير مسموح له أن يرى أبعد من أرنبة أنفه؟
تتصاعد الأسئلة وترتفع في وجه (حرَّاس الثقافات القديمة)، فتطالب اليدان بتحريرهما من القيود، ويطالب العقل بتحريره من (حرَّاس الثقافات المقدَّسة). وهي أسئلة تفتش عن أجوبة لها منذ أُرغم سقراط على تجرع السم، لتنفيذ الحكم عليه بالموت، لأنه نقد (ثقافة كهنوت عبادة الأصنام). وانقلاب (كهنوت تعددية الآلهة) على الفرعون أخناتون لأنه عمل على توحيد آلهة الوثنية بإله واحد.
إنها محنة العقل، ليست في العقل ذاته، ولكنها المحنة التي يضع فيها حراس الثقافات الصنمية أغلال التأبيد على العقول، ويعملون على اجتثاث كل جديد تتجرأ على ابتكاره. إنها باختصار الحكم على إبداعات العقل بالموت على كل من يريد أن يغيِّر حرفاً واحداً من مزامير داوود. وعبثاً كانت ثورة العقل للمطالبة بحقه بالتفكير والإبداع، لأن الحكم بالموت كان دائماً بانتظاره أمام محاكم التفتيش التي وسمت دائماً طبيعة العلاقة بين التجديد والتجميد. وفي ظل تلك المحنة وتحت رايتها يتساءل من يريد التجديد: على من تقرأ مزاميرك أيها العقل البشري؟
في المقدسات الوثنية تعدد في الرؤى والاجتهادات. وفي المقدسات السماوية تعدد في الأديان، وتعدد في الملل والنحل. وفي كل هذا وذاك، هناك فرقة واحدة ناجية من النار، حدَّدت شروطها ووسائل نجاة من ينتسب إليها أقلام كهنة الأديان والمذاهب. فنُحرت أمامها عشرات الآلاف من الضحايا المخالفين لها او أنصار التجديد في مواجهة التقليد. وعلى الرغم من الانقلاب الذي قاده دعاة الحرية والديموقراطية، ظلَّت عجلة محاكم التفتيش منذ بدء التكوين، وهي ما زالت مستمرة في عصر التقدم والحضارة تحت ألبسة وأردية متعددة، وهي الآن تظهر أحياناً بعمامات أو قلانس، أو بذقون طويلة أو برباطات عنق حديثة، أو بحجر تفرضه بعض الأحزاب على ما تعتبره مقدسات في عقائدها الأيديولوجية، فهي تدور وتدور. فهل من مخرج لكسر حلقة من حلقات دائرتها الجهنمية؟
لا تعود أسباب محنة العقل إلى النصوص التي يتناولها بالتحليل او النقاش، ولكنها تعود إلى الذين يعتبرونها مقدسة فيفهمون التقديس على انه عزلها عن روح العصر، ومنعها من ان تكون مصدر للالهام المتطور في تعايشه مع الحياة المتجددة. ربما لعجز فيهم عن التطوير والابداع في مجالها، خاصة وأن الله منحهم ملكة الاجتهاد فيها وتطويرها والتجديد في فهمها. ولأن الصنميون ينسبون القداسة إلى أمر من الله تعالى، خاصة منهم رجال الدين، وتجاهلوا أنه لم يفرض نصاً واحداً على كل مخلوقاته، وهو قادر على ذلك. ولما تعدَّد بعثه للأنبياء، والله قادر على أن يبعث رسولاً واحداً، ويُنزل عليه نصاً مقدساً واحداً، لا يقبل الشك أو الاجتهاد فيه، نصاً موجهاً إلى كل الشعوب والمجتمعات ليحاسبهم على أساسه من دون تمييز، وهو لن يقدم على غير ذلك لأن عدله الإلهي يأبى أن يميَّز إنساناً على آخر. أليس كل أبناء البشر هم من خلقه وتكوينه؟
كما إن الله تعالى قادر على أن لا يبعث نبياً لأنه باستطاعته أن يجعل الوحي في عقل وفطرة كل إنسان ويغرس القيم التي عليه أن يطبقها تطبيقاً دقيقاً لكي لا يخضعه لأي حساب، كما صنع من الملائكة مخلوقات متكاملة، وجعلهم في الموقع الذي لايحتاجون فيه لنبي ينذر ويبشِّر. وهو تعالى لم يخص برسائله شعباً واحداً من دون الشعوب الأخرى، ويبعث رسولاً لأمة من دون الأمم الأخرى، فلأنه خلق الجميع وساوى بينهم، وهنا تكمن العدالة الإلهية.
وأما الذين زعموا أن أمة واحدة فقط قد خصَّها الله بنعمته، أو أن فرقة واحدة هي التي ستنعم بالجنة، وأما الفرق الأخرى فستكون بالنار، هم الذين بمزاعمهم اتهموا الله تعالى باللاعدالة بين البشر. إن الله تعالى قد أنزل نصه الإلهي، وهو ما غرسه في نفوس جميع البشر، متمثلاً بالقيم العليا. تلك القيم التي تؤمن بها شعوب الأرض وتُقرُّ أن البشر، على شتى ألوانهم وأممهم، يؤمنون أنهم بتطبيقها سيحصلون على خلاص ضمائرهم في الحياة الدنيا، وخلاص أنفسهم فيما بعد الموت.
إن خلاص الضمائر والنفوس ليس مرتبطاً بالنصوص ذاتها، وإن من يبشِّر بغير ذلك، هم الكهنة المستفيدون من تأويل تلك النصوص قياساً على مصالحهم وحماية لمكانتهم ومواقعهم. وأما مصطلح الكهنة فيشمل كل مقولبي ومجمِّدي النص من رجال دين ومثقفين مدنيين.
فعلى صعيد الكهنوت الديني، فلو شاء الله تعالى أن يُجمَّد النص لكان بإمكانه أن لا يخلق قيمة الحرية في نفس الإنسان، ولما كان قد كلَّفه بالدفاع عنها. ولكنه بدلاً عن ذلك ترك المشيئة له أن يختار ما يشاء من دون إكراه. ولذلك ترك له قيمة الإبداع.
وعلى صعيد الكهنوت الثقافي المدني، ففي الإبداع لذة، وأي لذة؟ إنها روعة الاكتشاف الذي لا يدرك سره إلاَّ المبدعون. تلك اللذة التي دفعت أرخميدس للركض في شوارع مدينة سيراكيوز اليونانية هاتفاً: وجدتها.. وجدتها.
إن الإبداع هو رؤية ما لا يراه الآخرون، ورؤية المألوف بطريقة غير مألوفة، وهو تنظيم الأفكار وظهورها في بناء جديد انطلاقاً من عناصر
موجودة. فالإبداع إذن طاقة عقلية هائلة، وهو القدرة على حل المشكلات بأساليب جديدة.
الإبداع نعمة من الله تعالى أسبغها على الإنسان من أجل اكتشاف كل جديد ليضيفه إلى مكنوزاته العقلية، فتتراكم المعارف الإنسانية وتزدهر وبازدهارها تتطور الأمم وتقوى. ولو شاء الله أن لا ينعم على الإنسان بتلك النعمة لكان خلق فيه ما يريد من مبادئ ومُثُل دفعة واحدة ليغنيه عن مشاق مهام التفتيش والبحث وصعوباته، وهذه النعمة لا يدركها إلاَّ من وصل إلى اكتشاف معرفة جديدة، بعد عناء الركض وراء فكرة، ومعاناة ولادتها. فهل من لذة تعادل اللذة التي تذوقها أرخميدس عندما اكتشف نظريته فخرج مسرعاً من حوض الاستحمام وهو يجري في شوارع مدينة سيراكيوز، صارخاً: وجدتها … وجدتها.
الفكرة في عقل الإنسان هي كالذرة في عالم الجماد
ولأن الفكرة هي نواة المعرفة عند الإنسان، والمعرفة هي أرقى نعمة أسبغها الله على البشر. تلك النعمة، التي من دونها، لا لذة في حياة الإنسان ولا رقيّ في الأمم. فهو من دونها يتحول إلى مخلوق يتصرف بالغريزة، يفترس ويأكل لكي لا يموت، ويتناسل من دون أن يعرف مغزى لما يفعل. ونعمة المعرفة، أي تراكم المعارف مع ميزة إبداعها، تعادل التفجير النووي الذي وضع معادلته العالم إينشتاين، عندما اكتشف واحداً من أهم القوانين في العلوم الطبيعية، والذي اعتبر فيه أن الطاقة تعادل مربع انشطار الكتلة. والكتلة هي عبارة عن ذرات، وتوصل إلى أن انشطار الذرة يؤدي إلى انفجارات هائلة.
وقياساً على ذلك، فنحن نؤمن بأن هناك ما يشابهها في عالم الفكر. وإذا اعتبرنا أن الفكرة للعقل هي بمثابة الذرة للمادة، وانشطار الذرة يؤدي إلى تفجير هائل يصب في مصلحة إنتاج الطاقة المادية، فإن انشطار الفكرة يؤدي إلى انفجارات عقلية هائلة تصب في مصلحة تطوير مستوى المعرفة عند البشر.
واستناداً على ذلك، ولو قمنا بمعادلة فكرية تتقارب مع معادلة إينشتاين المادية، وهو أن انشطار الفكرة تؤدي إلى انفجار او تطور معرفي هائل، فانه لا يمكن تحقيق ذلك الانشطار من دون تفكير أو إبداع في التفكير.
وأخيراً، كي لا نسلك دروب اليأس ونعلن العجز عن التغيير، علينا البدء بالخطوة الأساسية وهي تحرير العقل العربي من سجون بعض المؤسسات العربية، سياسية كانت او دينية او مالية او غيرها، من التي تحرص على قولبته وتجميده وقتل الابداع فيه. ودعوة الأجيال العربية الجديدة من أجل الانقلاب على كل جمود وتخلف اصاب الثقافة التقليدية ومؤسساتها التي تزعم أنها تفكِّر بالنيابة عن كل الجماهير الشعبية، ولكنها في واقع الأمر لا تُنتج سوى ثقافة الالتحاق والتبعية لتلك المؤسسات الحاكمة او المهيمنة. تلك التبعية التي تعيق التقدم وتمنع التطور الذي تحتاجه الأمة لمواكبة العصر ومواجهة تحديات هي اليوم بمثابة الحياة اوالموت.
نعم للإبداع.. نعم للعقل النقدي التحليلي الذي يسعى الى تعميق استلهام النص وزيادة حيويته وتفاعله مع الواقع المتجدد دوما، لا كما تعتبره تلك المؤسسات مقدَّسات لا يجوز المساس بها. فبمثل هذا الابداع ينتج التطور، وبمثله تصبح مواجهة التحديات التي تحيط بالأمة وبشكل متسارع أمراً ممكناً وحتمياً.